لماذا لم تشهد أسعار النفط زيادة بالرغم من اندلاع الحرب بين إيران وإسرائيل؟ تحليل العوامل المؤثرة.

في مشهد يبدو مناقضاً للبديهيات الاقتصادية، تراجعت أسعار النفط العالمية رغم اشتعال المواجهة بين إيران وإسرائيل، والتي بلغت ذروتها منتصف يونيو حزيران 2025 مع تبادل الضربات على مواقع استراتيجية في نطنز وتل أبيب، وبينما كان يُتوقّع أن تقفز الأسعار وسط هذه التوترات، أظهرت الأسواق بروداً لافتاً، حيث هبطت العقود الآجلة لخام برنت بأكثر من 3%، في دلالة على أن العوامل الأساسية -مثل وفرة الإمدادات، وغياب أضرار حقيقية على البنية التحتية النفطية، والطلب العالمي المتباطئ- كانت أقوى من ضجيج المدافع. في هذا التقرير، نحلل كيف تجاوز النفط رياح الحرب، وما يمنع الأسعار من الاشتعال في خضم أزمة جيوسياسية مشتعلة.
صعد يوم الجمعة 13 يونيو حزيران خام برنت إلى نحو 74.2 دولار للبرميل، وهو ارتفاع 7 في المئة عن إغلاق الخميس، ولكن مع تراجع حدة التوتر يوم الاثنين 16 يونيو حزيران عاودت الأسعار النزول.
لذلك، الأسباب التي أدت إلى تراجع الأسعار في ظل تصعيد عسكري محيط، تكمن بالأساس في الأضرار المحلية المحدودة، استمرار تدفق الإمدادات وحركة الملاحة، احتياطي الإنتاج والتعويض من أوبك+، ضغوط السوق العالمية والطلب المتراجع.
الأضرار المحلية المحدودة
تشير المؤشرات الأولى إلى أن الهجمات لم تستهدف البنية التحتية النفطية الاستراتيجية في البلدين، فقد صرحت شركات النفط الإيرانية الرسمية أن مرافق التكرير والتخزين تعمل بشكل طبيعي ولم تتضرر جراء الضربات. ومن الجانب الإسرائيلي، لم يصدر ما يفيد بوقوع خسائر في منشآتها النفطية في أعقاب الردود الصاروخية. يقول محللون إن إسرائيل حرصت على عدم استهداف جزيرة خارك الإيرانية المحورية لتصدير الخام، والتي تشكّل نحو 90 في المئة من صادرات النفط الإيرانية. وأوضح مستشار الطاقة في شركة هوك إنرجي «Hawk Energy»، خالد العوضي لل CNN الاقتصادية من قبل أن «تأثير الضربة الإسرائيلية الأخيرة كان يستهدف بالأساس رؤوساً بشرية من القادة العسكريين الإيرانيين، ما يضعها في خانة الأهداف الجيوسياسية والعسكرية طويلة الأمد، وليست اقتصادية بالدرجة الأولى»، وهذا يتماشى مع التوضيح الطابع السياسي للهجوم وعدم استهداف البنية النفطية.وبشكل عام، لم تقع أي ضربة مباشرة على مرافق إنتاج أو نقل رئيسية للنفط. وهذا يعني عملياً أن قدرة الدول المنتجة على استئناف الإنتاج متاحة بالكامل، وأن المخاوف من انقطاع للإمدادات لم تتحقّق على أرض الواقع حتى الآن.
استمرار تدفق الإمدادات وحركة الملاحة
بالإضافة إلى عدم تأثر المنشآت النفطية، تستمر خطوط الإمداد الرئيسة في العمل بشكل اعتيادي، حتى الآن لم تُسجَّل أية محاولات لتعطيل الملاحة في مضيق هرمز أو غيره من المعابر البحرية الحيوية. فحسب تقرير لوكالة رويترز، أنه لم تُستهدف بعد قدرة الإنتاج والتصدير، ولم تسجَّل أي جهود من إيران لتعطيل تدفقات النفط عبر مضيق هرمز.ويشير الخبراء إلى أن الصادرات الإيرانية الذائعة التي تكون أكثر من مليوني برميل يومياً، يمكن استبدالها بسهولة نسبية، فعلى سبيل المثال، أكبر مشترٍ نفط إيراني حالياً هي الصين، وقد بدأ يتسع نطاق طلبها لاستيراد خامات بديلة من دول الخليج وروسيا لتعويض أي نقص محتمل.كما أشار خالد العوضي أن «هذه حرب استباقية لها دوافع سياسية وجيوسياسية، وليست معركة على النفط.. لكن في حال تطور التهديد ليشمل مضيق هرمز أو منشآت نفطية كبرى، فسيكون هناك رد فعل مختلف تماماً من الأسواق». وهكذا، بقيت شحنات النفط القادمة من المنطقة مستقرة. فقد استمرت حقول النفط في العراق والسعودية والإمارات وكازاخستان وغيرها في ضخ كامل طاقتها، بما يعوّض أي تذبذب طفيف في الإمدادات. وحتى حقل «ليفثيان» الإسرائيلي للغاز الطبيعي الذي تضرّر جزئياً واستُؤنف لاحقاً خلال الأزمة، لا يعد مصدراً للنفط الخام، بل للغاز، وبالتالي لم يلعب دوراً مباشراً في خفض العرض النفطي. بناءً على ذلك، يبدو أن الأساسيات المؤثرة محلياً لم تُسهم في نقص عالمي مفاجئ بالمخزون، ما قوّى موقف الأسعار في الأسواق.
احتياطي الإنتاج والتعويض من أوبك+
يعزز هذه الصورة عامل مهم، وهو وجود طاقة فائضة ضخمة لدى «أوبك+». فإجمالي إنتاج إيران يصل إلى نحو 3.3 مليون برميل يومياً، منها أكثر من مليوني برميل تُصدَّر خارجياً. ويرى الخبراء أن طاقة الإنتاج الفائضة لدى دول «أوبك+»، بما فيها السعودية وروسيا والكويت والإمارات، تعادل تقريباً كامل إنتاج إيران الحالي.وهذا يعني أنه حتى في حالة توقف إنتاج وإمدادات النفط الإيرانية تماماً، فإن الدول الأخرى قادرة على ضخ المزيد من الخام لتعويض النقص. وقد أوضح أحد المحللين «أن الطاقة الإنتاجية والاحتياطية لأوبك+ كافية لتعويض أي اضطراب»، ومضى قائلاً «ما لم يَمس أحد الجزيرة النفطيّة (خارك)، لا توجد قصة حقيقية حتى الآن». وفي ضوء ذلك، تحيَّد عامل خفض المعروض الذي كان من شأنه رفع الأسعار، فبدلاً من ذلك، واصلت «أوبك+» زيادة الإنتاج في يونيو حزيران 2025 بعد الاتفاق على زيادات شهرية متتالية، ما أضاف سيولة نفطية إضافية إلى السوق، وحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية، فإن دول «أوبك+» مددت برنامج رفع الإنتاج للخوض في يوليو تموز أيضاً.وهو ما يعني ضغطاً إضافياً نحو توازن العرض أو فوائض العرض في السوق العالمية، وعليه، تُعد طاقة أوبك الاحتياطية الدعامة الرئيسية التي تبقي السوق متناغماً رغم التوترات.
ضغوط السوق العالمية والطلب المتراجع
بخلاف الصراع، هناك عوامل هيكلية أكبر تلعب دوراً في تحركات الأسعار. تشير أحدث التقارير إلى أن المخزونات النفطية العالمية ترتفع بوتيرة سريعة هذا العام، وذلك نتيجة زيادة الإنتاج العالمي وتباطؤ نمو الطلب، ففي مايو أيار، انخفض متوسط سعر خام برنت إلى نحو 64 دولاراً للبرميل، أي أقل بـ17 دولاراً من مستواه في مايو أيار 2024. وظلت الأسعار تتراجع لأربعة أشهر متتالية بسبب ارتفاع المخزونات العالمية وتراجع الطلب، بالإضافة إلى إلغاء «أوبك+» لجزء كبير من التخفيضات الإنتاجية التي بدأت في 2022. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأميركية أن تتسارع زيادة المخزونات العالمية في 2025، إذ سيزيد متوسط المخزون العالمي بمقدار 0.8 مليون برميل يومياً مقارنة مع تقديرات سابقة.أي بعبارة أخرى، من المنتظر أن يظل المعروض العالمي يفوق الطلب بشكل ملحوظ، ما يمارس ضغوطاً هبوطية إضافية على الأسعار. ورغم بعض التوتر السياسي، إلا أن الأسواق الآن تزن بين هذه التطورات، وفي ظل هذا الفائض العام للمعروض، لم يشكل التصعيد الإيراني الإسرائيلي سببا كافيا لتغيير صورة العرض والطلب.وبناءً على تحليلات مؤسسة بي أم أي BMI، التابعة لفيتش سولوشنز Fitch Solutions، السوق حالياً تعيش حالة توازن هشة بين تصعيد عسكري محدود وفائض في العرض العالمي؛ أي تغير حقيقي في الأسعار سيكون مرتبطاً بتوسّع الصراع ليشمل منشآت حيوية أو طرق الملاحة مثل هرمز، لا تزال أسعار النفط تحت السيطرة، بفعل قدرة «أوبك+» الفائضة، وتباطؤ الطلب واحتياطيات المخزون المرتفعة.في المحصلة، فإن تراجع الأسعار في هذا التوقيت يعود إلى مجموعة عوامل متداخلة، من الأضرار المحلية المحدودة التي لم تُخِل بتدفقات النفط، واستمرار عمل المحطات والمنصات وسلامة مضيق هرمز، إضافة إلى وفرة طاقة الإنتاج الاحتياطية لدى «أوبك+». ومع إضافة عامل فائض المعروض العالمي وأفق الطلب الهادئ، بدت الأسواق أقل انزعاجاً من الاشتباكات الراهنة. تبقى مسألة مدى التصعيد المستقبلي خارج السيطرة كالسلاح المحتمل لتحريك الأسعار؛ لكن حالياً، تعكس المؤشرات الجوية نمطاً اضطرابياً في الأسعار، يصدر منه هدير هبوطي في ظل ظروف الإمداد المستقرة نسبياً.**العقود الآجلة للنفط هي اتفاقيات لشراء أو بيع النفط في تاريخ لاحق، بسعر يتم تحديده اليوم. وعلى عكس السعر الفوري الذي يعكس سعر البرميل «الآن»، فإن سعر العقد الآجل يتأثر بتوقعات السوق للمستقبل، مثل احتمال حدوث أزمة أو فائض في المعروض. لذلك يُرى أن الأسعار الآجلة أحياناً تكون أعلى أو أقل من السعر الفوري، وهو ما يُعرف بـ«الكونتانغو» أو «الباكواريشن»، حسب التوقعات.