اقتصاد ما بعد الأزمات.. كيف تعيد الدول العربية رسم أولوياتها التنموية في زمن اللايقين؟

اقتصاد ما بعد الأزمات.. كيف تعيد الدول العربية رسم أولوياتها التنموية في زمن اللايقين؟

في زمن يسبق فيه الطارئ كل شيء، وتتراجع الثوابت الاقتصادية تحت وطأة الأزمات المتلاحقة، تصبح التنمية المستدامة الحلقة الأضعف في معادلة النجاة، فهل تتآكل بفعل الضغوط؟ أم يُعاد ابتكار أدواتها لتتحول إلى ركيزة صلبة في مواجهة الارتباك العالمي القادم؟وسط هذه التحديات، تتجلّى ملامح اضطراب ملموس في مسار النمو العالمي، خاصة مع تصاعد معدلات التضخم وتراجع زخم الاستثمار طويل الأجل في مشاريع التنمية المستدامة، وفقاً لتقرير الاستثمار العالمي 2024 الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، انخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر عالمياً بنسبة 2% في عام 2023، فيما سجلت الدول النامية انخفاضاً أكبر بنسبة 7%.

 ما يعكس تحولاً ملحوظاً نحو أولويات إنفاق قصيرة الأجل، وفي السياق نفسه، تواجه جهود تعبئة التمويل الخاص نحو مشاريع التحول الأخضر تحديات متزايدة، هذا وتشير بيانات البنك الدولي إلى أن نسبة التمويل من القطاع الخاص إلى التمويل العام لمشروعات البنية التحتية المستدامة لم تتجاوز 1:1 في العديد من الدول، أي أن كل دولار يُقدم من الحكومات لا يقابله أكثر من دولار واحد فقط من المستثمرين في القطاع الخاص، ما يعكس تردّد القطاع الخاص في خوض استثمارات ذات طابع طويل الأجل وعوائد غير مضمونة.
الواقع الاجتماعي لا يقل قتامة؛ إذ تشير بيانات البنك الدولي إلى أن التضخم في أسعار الغذاء أعلى من 5% في 77.3% من البلدان منخفضة الدخل، فيما يظل قرابة ملياري شخص في تلك البلدان غير مشمولين بالحماية الاجتماعية، هذه المعطيات لا تضع العالم أمام أزمة مالية فقط، بل أمام أزمة ثقة في قدرة المؤسسات والمنظمات الخاصة بالخدمة الاجتماعية الحالية على حماية المجتمعات الضعيفة.اللحظة الفارقة في مسار الاستدامة تفرض على صنّاع القرار تبنّي سياسات تعيد توجيه البوصلة نحو حلول جذرية، المطلوب اليوم ليس فقط إصلاح الأدوات، بل إعادة تعريف الأهداف ذاتها، إن الحديث عن تنمية مستدامة يجب ألا يبقى محصوراً في أروقة المؤتمرات، بل يجب أن يتحول إلى منظومة متكاملة تتقاطع فيها السياسات الاقتصادية، والتشريعات المالية، والاستراتيجيات التعليمية، والتكنولوجية.لم يعد تمكين الشباب ترفاً شعارياً يُزاحم الخطابات، بل بات ضرورة ملحّة لإعادة ضخ دماء جديدة في مفاصل صنع القرار التنموي، فالتنمية المستدامة تحتاج إلى قادة يؤمنون بالتجديد ويقودون التغيير بفكر تقدمي، نحن بحاجة إلى جيل جديد لا يكتفي بالتكيّف، بل يصوغ البدائل، ويعيد تشكيل النماذج لتواكب عالماً لا ينتظر المترددين.التعاون الدولي أيضاً بات ضرورة استراتيجية، فالحلول المحلية لن تصمد طويلاً أمام مشكلات عابرة للحدود، ومن هنا، فإن تبني سياسات تمويل جماعي للمشاريع الخضراء، وتيسير تبادل التكنولوجيا، وتقديم إعفاءات جمركية للمنتجات المستدامة، يمكن أن يعيد الزخم للتحول الأخضر عالمياً.يتعين على المتخصصين في مراكز التأثير وصياغة التوجهات التنموية أن يُركّزوا على رؤى بعيدة المدى، تعيد ترتيب الأولويات التنموية بما يواكب التحولات العالمية المتسارعة، فالتنمية الحقيقية لا تُبنى على ردود الأفعال، بل على قرارات مدروسة تستند إلى الابتكار، والاستثمار الذكي، وتخطيط يضع الأجيال القادمة في قلب المعادلة.ختاماً، لا تبدو الأزمة الراهنة مجرد تعثّر اقتصادي، بل اختبار عميق للنية والكفاءة، في زمن تسبق فيه التحولات قدرة السياسات على المواكبة، فالتنمية المستدامة لم تعد خياراً مؤجلاً، بل أصبحت العدسة التي نرى بها لمستقبل ونحدد عبرها موقعنا في خريطته المتغيّرة، وبين من يكتفي بقراءة الواقع، ومن يسهم في إعادة كتابته، فرق اسمه؛ الإرادة.ولنتذكر أن ما يُنجز اليوم بصيغة استجابة، يجب أن يُصاغ غداً كمحطة استباق؛ فالتنمية الحقيقة لا تنبت في ظل الحياد، بل في ظلال من يملكون شجاعة المبادرة، قبل أن تفرضها الضرورة!  تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.