أغلى من النفط.. هل دخلنا زمن الماء؟

أغلى من النفط.. هل دخلنا زمن الماء؟

قد لا يبدو الأمر بديهياً، لكننا اليوم نعيش في واحدة من أكثر المناطق عطشاً في العالم.. في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لم تعد أزمة المياه مجرد شأن بيئي، بل تحوّلت إلى تحدٍّ اقتصادي واستراتيجي.. في وقتٍ أصبحت فيه مياه الشرب في بعض الدول أغلى من النفط، تطرح هذه الحقيقة أسئلة جوهرية: ما الذي أوصلنا إلى هذا الحد؟ وهل تحلية المياه هي الحل المستدام أم مجرد استجابة مؤقتة لأزمة متفاقمة؟ندرة متزايدة في الموارد وطلب لا يهدأ

تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعدّ الأكثر ندرة بالمياه عالمياً، حيث يقطنها نحو 6% من سكان العالم، لكنها لا تمتلك سوى أقل من 1% من موارده المتجددة.
 أكثر من 60% من سكان المنطقة يعيشون في مناطق تعاني من شحّ حاد في المياه، أي أن حصة الفرد السنوية أقل من 500 متر مكعب، وهي أقل بكثير من خط الفقر المائي المحدد بـ1,000 متر مكعب.الأزمة ليست فقط في الشحّ الطبيعي، بل في تزايد الطلب بشكل هائل بفعل النمو السكاني والتوسع الحضري، إلى جانب تغيّر المناخ الذي بدأ يغيّر أنماط الهطول ويفاقم الجفاف، وكنتيجة مباشرة بدأت بعض الشركات العالمية والمؤسسات المالية بالتعامل مع المياه كمورد اقتصادي قابل للتداول، حتى إن بورصة “وول ستريت” أدرجت عقود المياه الآجلة لأول مرة في عام 2020، لتدخل بذلك إلى عالم المضاربة، تماماً مثل النفط._تحلية المياه.. بين الضرورة والتكلفةفي ظل هذا الواقع، ظهرت تحلية مياه البحر كأحد الحلول الرئيسية، خصوصاً في دول الخليج العربي، حيث تغطي ما يزيد على 70% من احتياجات مياه الشرب من خلال التحلية. وفقاً للبنك الدولي، تشغّل دول مجلس التعاون الخليجي أكثر من 60% من إجمالي قدرة التحلية العالمية، وهي نسبة تعكس الاعتماد المتزايد على هذا الخيار.لكن هذا الخيار ليس بلا ثمن؛ تحلية المياه تستهلك كميات ضخمة من الطاقة -خاصة عندما تتم عبر الطرق الحرارية التقليدية- وتخلّف نواتج ملحية يتم ضخها إلى البحر؛ ما يؤثر على النظام البيئي البحري، كما أن كلفة المتر المكعب الواحد من المياه المحلاة يمكن أن تتراوح بين 0.5 و1.5 دولار، ما يجعلها أغلى بكثير من مصادر المياه العذبة التقليدية.محطة “بركة 4” في عُمان.. نموذج للتوسّع الاستراتيجيضمن هذا السياق، تُعد محطة “بركة 4” في سلطنة عُمان واحدة من أكبر مشاريع التحلية في المنطقة.. تقع في محافظة الباطنة، وتنتج نحو 281,000 متر مكعب يومياً من المياه الصالحة للشرب، أي ما يكفي لتلبية حاجات أكثر من 1.2 مليون شخص يومياً. تعتمد المحطة على تقنية “التناضح العكسي” (Reverse Osmosis)، وهي تقنية أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة مقارنة بالتحلية الحرارية، ما يعزز من جدواها الاقتصادية والبيئية.تدير المحطة شركة Veolia الفرنسية، الرائدة عالمياً في مجال إدارة الموارد البيئية والمياه، بالشراكة مع شركة “نماء للمياه” العُمانية. وتُعد “بركة 4” جزءاً من استراتيجية أوسع للشركة لتعزيز الأمن المائي في سلطنة عُمان، فإلى جانبها، تدير Veolia أيضاً محطة التحلية في مدينة صور (Sur)، والتي تُعتبر من أقدم وأهم محطات التحلية في البلاد، وتُنتج أكثر من 131,000 متر مكعب يومياً من المياه.تُظهر هذه المشاريع كيف يمكن للتعاون بين القطاعين العام والخاص أن يُثمر حلولاً متقدمة وفعّالة في مواجهة تحديات ندرة المياه، وتعزيز مرونة البنية التحتية الحيوية في الخليج.سوق المياه.. من الاستهلاك إلى المضاربةالتحولات في قطاع المياه لم تقف عند حدود الإنتاج، بل شملت أيضاً بُعداً مالياً جديداً؛ إدراج المياه في البورصات العالمية يعني أن هذه المادة الحيوية أصبحت سلعة مثل أي سلعة أخرى، تخضع لأسعار السوق، وتتأثر بالتقلبات الجيوسياسية والمناخية. وقد أثار هذا التوجه جدلاً واسعاً، بين من يرى فيه خطوة لتعزيز الكفاءة وتقليل الهدر، ومن يحذّر من خصخصة مورد يجب أن يبقى حقاً إنسانياً غير قابل للمزايدة.في عالم يتغير مناخياً واقتصادياً بسرعة، تبرز المياه كأحد أخطر التحديات التي ستواجه البشرية في العقود المقبلة، في منطقتنا بالذات، لم تعد الأزمة نظرية أو مستقبلية، بل واقع نعيشه يومياً. ومع أن التحلية تسهم في التخفيف من حدّة الأزمة، إلا أن الحل المستدام يتطلب أكثر من تقنيات؛ يحتاج إلى سياسات رشيدة، واستثمارات ذكية، وإرادة حقيقية لإعادة النظر في قيمة كل نقطة ماء من حولنا.