التغير المناخي والأزمة الصحية المتفاقمة في الشرق الأوسط

التغير المناخي والأزمة الصحية المتفاقمة في الشرق الأوسط

تهديدات ومخاطر إقليمية

أثبتت منطقة الشرق الأوسط قدرتها على الصمود أمام الأزمات المختلفة التي مرت بها، لكنها اليوم تواجه تحدياً غير مسبوق يتمثل في التداعيات الصحية المتزايدة لأزمة التغير المناخي.
ويتسبب المناخ الحار والجاف وندرة المياه في المنطقة في زيادة خطورة هذا التحدي، ما يجعل الشرق الأوسط أكثر عرضة لتداعيات الاحتباس الحراري مقارنةً بمناطق أخرى.. وفيما يتناول الحوار الدولي حول التغير المناخي التغييرات البيئية الكبرى، أصبح من الواضح أن المنطقة ستتكبد خسائر بشرية فادحة متأثرة بهذه الظروف.وتبدو التوقعات في هذا الصدد متشائمة إلى حدٍ ما؛ فوفقاً لتقرير صادر حديثاً عن شركة أوليفر وايمان بالتعاون مع المنتدى الاقتصادي العالمي بعنوان “الرعاية الصحية في مناخ متغير: الاستثمار في حلول مرنة”، فإن تغير المناخ قد يتسبب في وفاة ما يصل إلى 14.5 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2050، فضلاً عن تسجيل تدهور كبير في جودة الحياة، كما سيواجه سكان المناطق الحضرية المكتظة في المنطقة الخطر الأكبر، في ظل تزايد وتيرة وشدة موجات الحر والجفاف والعواصف الرملية.العواقب الصحية المتعددةتتسم العواقب الصحية الناتجة عن ظاهرة التغير المناخي بتنوعها الكبير؛ إذ نشهد اليوم تزايداً في الأمراض المرتبطة بارتفاع الحرارة، وتفاقم الأمراض التنفسية المسجلة الناجمة عن تلوث الهواء والغبار، إضافة إلى التهديد المستمر للأمراض المعدية التي تنتشر نتيجة تسبب التغير المناخي في تغيير موائل ناقلات الأمراض. ووفقاً لتحليل أوليفر وايمان، فمن المتوقع أن تمثل فترات الجفاف 71% من الخسائر التراكمية بين عامي 2023 و2050، ما سيؤدي إلى نقص حاد في الغذاء وزيادة كبيرة في سنوات العمر المعدّلة حسب الإعاقة، الأمر الذي سيفاقم العبء الصحي بشكل ملحوظ.علاوة على ذلك، يتوقع التقرير أن يؤدي تفشي انتشار البعوض الحامل للأمراض إلى إصابة 500 مليون شخص إضافي بمرضَي الملاريا وحمى الضنك بحلول عام 2050.قصور الأنظمة الصحية الحاليةتكمن المشكلة الأساسية في عجز الأنظمة الصحية الحالية عن التعامل مع التحديات المرتبطة بالتغير المناخي.. وفي حال عدم اتخاذ إجراءات عاجلة، ستكون منطقة الشرق الأوسط عرضةً لكارثة صحية جسيمة. ولتجنب هذه السيناريوهات السلبية، من الضروري تبني نهج «الإسعاف المناخي» الشامل، والذي يعتمد على المساهمة الفعالة، والاستعداد الجيد، والاستجابة السريعة للتحديات الصحية الناجمة عن التغير المناخي.المساهمة: يتعين على قطاع الرعاية الصحية العمل على تقليل بصمته الكربونية من خلال اتخاذ تدابير صارمة تتعلق بالسياسات المتبعة، بما في ذلك الالتزام بأهداف الحياد الكربوني وتبني ممارسات الشراء المستدامة.. كما يجب تكثيف الجهود لبناء بنى تحتية صحية مرنة، مثل المستشفيات التي تعتمد ممارسات مستدامة وتكون قادرة على الصمود أمام الظواهر المناخية القاسية. لضمان الجدوى الاقتصادية لهذه الاستثمارات، من الضروري وضع آليات تمويل مبتكرة وتبني أطر تنظيمية عالمية منسقة.الاستعداد: تُحتِّم التحديات الراهنة وضع خطط تكيّف خاصة بكل منطقة. ويتعين على المنظومات الصحية الاستعداد لمواجهة تفشي الأمراض المرتبطة بالتغير المناخي، من خلال تطوير قدراتها وتعزيز خطط الاستجابة للطوارئ. ويستدعي ذلك ضخ مزيد من الاستثمارات في الرعاية الصحية الوقائية، وتدريب الكوادر الطبية، وتخصيص موارد مالية كافية للتعامل مع حالات الطوارئ المناخية.الاستجابة: يُعتبر التنسيق المشترك والابتكار من العوامل الأساسية التي تعزز فاعلية الحلول المناخية؛ من الضروري تشكيل فرق عمل بيئية مشتركة بين الأقسام المختلفة وإقامة شراكات دولية داخل المنطقة لمواجهة الآثار المناخية بشكل جماعي، كما أن إشراك أفراد المجتمع وتثقيفهم يعدان أمرين حيويين لتعزيز النهج الشامل القائم على المجتمع.وينبغي الاستفادة من الدروس المستخلصة من أزمة كوفيد-19، وتوجيه استثمارات سريعة واستراتيجية نحو البحث والتطوير في مجالات الوقاية والعلاج والتكنولوجيا.وقد أشار تقرير أوليفر وايمان إلى أن استثماراً موجهاً قدره نحو 65 مليار دولار أميركي على مدى خمس إلى ثماني سنوات، من خلال التعاون بين القطاعين العام والخاص، يمكن أن يسهم في تحقيق عوائد مجزية.التداعيات الاقتصادية لعدم التحرك المناخييؤدي التقاعس عن اتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة التغير المناخي إلى تداعيات اقتصادية خطيرة، إذ تؤكد تقديرات تكلفة النظام الصحي العالمي، التي تبلغ 1.1 تريليون دولار أميركي، ضرورة إيلاء الأولوية الاستثمارية لمنطقة الشرق الأوسط لمواجهة تحديات التغير المناخي، كما أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي الصادر في يناير 2024 بعنوان «قياس تأثير التغير المناخي على الصحة البشرية» إلى أن استثمار 5% فقط من ميزانية البحث والتطوير السنوية المخصصة لصناعة الأدوية في الحلول الصحية المرتبطة بالتغير المناخي يمكن أن يسهم في إنقاذ نحو 6.5 مليون شخص وتجنب خسائر اقتصادية تقدر بقيمة 5.8 تريليون دولار أميركي على مستوى العالم.التغلب على العوائق التنظيميةيُعتبر التغلب على العوائق التنظيمية وحالة عدم اليقين التي تعوق الاستثمارات الخاصة في الحلول الصحية المرتبطة بالتغير المناخي خطوة حاسمة لجذب التمويل الضروري. ينبغي الاستفادة من التجارب العالمية الناجحة، مثل خطة الحياد الكربوني للنظام الصحي الوطني البريطاني ومبادرات التخطيط الحضري المستدام، وتكييفها لتناسب الظروف الخاصة بمنطقة الشرق الأوسط، ما يسهم في تقليل تداعيات التغير المناخي وتعزيز الاستثمارات في هذا المجال.دعوة لاتخاذ خطوات من أجل مستقبل صحي ومستدامتُعتبر السياسات التي تجمع بين أهداف الصحة البيئية والتخطيط الصحي الوطني من الركائز الأساسية لضمان استجابة فعّالة للتحديات الصحية المستقبلية. إن أخذ أولويات التغير المناخي بعين الاعتبار في عمل وزارات الصحة يسهم في ضمان التخطيط لتقديم استجابة شاملة ومتكاملة.. يتطلب هذا الأمر إحداث تحول جذري نحو تبني تدابير استباقية تركز على التنمية المستدامة وتعزيز قدرة الأنظمة الصحية على مواجهة آثار التغير المناخي.تقف منطقة الشرق الأوسط اليوم على عتبة تحول حاسم، إن اعتماد منهجية شاملة وتعاونية ومبتكرة يمكن أن يسهم في التخفيف من الآثار الصحية المدمرة للتغير المناخي، وبناء مستقبل أكثر مرونة واستدامة للمنطقة.يجب أن نبدأ العمل اليوم لتفادي التداعيات المستقبلية على صحة الملايين وعافيتهم.