اقتصاد الميتافيرس.. كيف تُعيد المهارات الرقمية رسم خارطة الوظائف وقواعد التنافسية؟

عندما يتغير العالم بوتيرة لا تتوقف، وتتحول الأفكار من مجرد تصورات إلى حقائق، تتولد فرص جديدة تعيد تشكيل سوق العمل، ليس عالمياً فحسب، بل في عمق العالم العربي أيضاً. في عصر الميتافيرس، لم يعد السؤال: كيف تعمل بل أين تعمل؟ وكيف نصوغ وظائف تتماشى مع مستقبل لا يُشبه الماضي؟
فالميتافيرس بيئة رقمية تفاعلية قائمة على تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز، تُمكّن المستخدمين من العمل والتجارة والتفاعل عبر هويات رقمية، ويُعدّ من أبرز ملامح التحول القادم في الاقتصاد الرقمي.
في أكتوبر 2021، أعلن مارك زوكربيرغ تغيير اسم شركته من فيسبوك إلى ميتا، مشيراً إلى تركيزها المستقبلي على الميتافيرس، هذا التوجه يعكس بداية عصر جديد في الاقتصاد الرقمي. ووفقاً لتقرير صادر عن شركة PwC الاستشارية، فمن المتوقع أن تسهم تقنيات الواقع الافتراضي والمعزز بنحو 1.5 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2030، هذا النمو الكبير ليس مجرد رقم، بل ترجمة حية لتحولات جذرية ستُعيد تشكيل الوظائف والأسواق أيضاً.الميتافيرس ليس مجرّد تطوّر رقمي جديد، بل قفزة تغيّر مفهوم العمل من جذوره، فهو لا يضيف وسيلة، بل يبني واقعاً موازياً يفرض مهارات ووظائف لم تكن مألوفة. اليوم، لم تعد المهن تقتصر على المهندس والطبيب، بل ظهرت أدوار لم نعرفها من قبل، كمن يُصمم العوالم الافتراضية بكل تفاصيلها التفاعلية، أو من يحمي المستخدمين في تلك البيئات من التهديدات الرقمية، إنها وظائف لم تُكتب بعد في قواميس العمل، لكنها بدأت تتشكل على أرض الواقع.لا تقتصر الوظائف الجديدة على التقنية فقط، بل تتعداها إلى مجالات الإعلام والتسويق والفنون، فنجد الآن منسقي فعاليات رقمية، وفنانين رقميين يصممون مقتنيات افتراضية تُعرض وتُشترى كما تُباع اللوحات في المعارض التقليدية، ووفقاً لتقرير مستقبل الوظائف الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي 2020، فإن نحو 50% من الموظفين الحاليين سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهاراتهم نتيجة التحولات الرقمية الحالية. لذا، فإن إعداد الكوادر القادرة على ملء هذه الأدوار الجديدة بات ضرورة حتمية لا مناص منها.وفي السياق ذاته، لا بُد من الاعتراف بأن سوق العمل بات يقيس الكفاءة بالمهارة لا بالمسمى الوظيفي، القدرة على تحليل البيانات، أو تطوير البرمجيات والخوارزميات التفاعلية، أو حتى إدارة المحتوى الرقمي والإبداعي، صارت من بين المؤهلات الحقيقية التي تصنع الفرق. وبحسب تقرير صادر عن شركة ماكينزي للاستشارات، فالموظفون الذي يمتلكون مهارات رقمية متقدمة يحققون متوسط دخل أعلى بنسبة 41% مقارنة بالموظفين التقليديين في القطاع ذاته.التحولات في سوق العمل عالمياً تتطلب مرونة فكرية وقدرة عالية على التكيف، حيث تتداخل مجالات البرمجة مع التصميم والإبداع مع التحليل والقيادة بروح وفكر تقدمي فائق، هذا المزج يخلق وظائف جديدة مثل «مستشار تجارب المستخدم» الذي يعمل على تطوير واجهات تفاعلية تراعي السلوك البشري في العوالم الافتراضية، وغيرها الكثير.وعلى هذا الأساس، لا يمكن لأي مجتمع أن يواكب هذه الثورة إلا إن أعاد التفكير في أدواته التعليمية والتدريبية، وهنا يأتي دور وزارات التعليم العربية التي آن لها أن تتحرك خارج قاعات التنظير، المطلوب ليس مراجعة المناهج فقط، بل إعادة صياغتها بالكامل لتصبح منصات لبناء العقول الرقمية، كمًا ونوعًا.ينبغي أن تتبنى وزارات التعليم في العالم العربي مناهج عملية متقدمة تركّز على البرمجة والتصميم الرقمي والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، مع تمكين الطلاب من مهارات التفكير النقدي والعمل التعاوني والقدرة على الابتكار في بيئات متغيرة، فالمستقبل لا ينتظر أحداً، والتردد في تحديث أنظمتنا التعليمية بالكامل لن يؤدي سوى إلى اتساع الفجوة بين ما نُعلّمه وما يحتاج إليه سوق العمل.ولكي نكون واقعيين، فإن هذا التحوّل لن يحدث بين ليلة وضحاها، المطلوب اليوم هو خلق بيئة تعلّم مدى الحياة، لا تنتهي عند أبواب الجامعات، بل تمتد لتشمل المراحل المهنية كافة، وبناء قدرات تتطور باستمرار، وتُقاس بمدى القدرة على التكيّف مع تقنيات لم تولد بعد.وتأسيساً على ما سبق، فإن الميتافيرس لم يعد احتمالاً مستقبلياً، بل واقعاً يتسلل إلى مفاصل الاقتصاد دون استئذان، المسألة لم تعد: متى نلحق؟ بل كيف نصنع موقعاً نستحقه في عالمنا العربي؟ ففي عالم تُصاغ فيه الوظائف بشفرات رقمية، وتُقيّم فيه المهارات بقدرتها على التكيّف، لن ينتظرنا أحد. إمّا أن نكون جزءاً من الكود وإمّا رقماً خارج معادلة الاقتصاد الجديد الذي لا ينتظر المتأخرين. تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.