من دخول الأسواق إلى السيطرة: مسار تحول السيارات الصينية في الشرق الأوسط وإفريقيا

من دخول الأسواق إلى السيطرة: مسار تحول السيارات الصينية في الشرق الأوسط وإفريقيا

تشهد منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا تحولاً ملحوظاً في مشهد التنقل، مدفوعاً بشكلٍ رئيسي بـتوسع الحصة السوقية للصين، فخلال السنوات القليلة الماضية حققت شركات صناعة السيارات الصينية نمواً لافتاً في المنطقة، إلا أن هذا التوسع لم يأتِ على دفعةً واحدة، بل على العكس من ذلك، فنحن نشهد موجتين مختلفتين من السيارات الصينية المستوردة، لكل منها استراتيجيتها وتأثيرها على السوق، وانعكاساتها على مستقبل قطاع السيارات بالمنطقة.
في المملكة العربية السعودية، برزت هذه الموجة خلال الفترة من 2018 إلى 2021؛ إذ شهدت العلامات التجارية الصينية نمواً ملحوظاً في حصتها السوقية من 3 في المئة إلى 16 في المئة، أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد ظهرت هذه الموجة في وقت لاحق؛ إذ ارتفعت الحصة السوقية للعلامات الصينية من 4 في المئة بعام 2022 إلى 13 في المئة بعام 2024.قادت علامات تجارية مثل “جيلي”، “إم جي”، و”شانجان” هذا النمو الأولي، مستفيدةً من جاذبية بسيطة لكنها فعالة: سيارات عملية بأسعار تنافسية ومزودة بتقنيات أساسية، تستهدف شريحة المستهلكين متوسطي الدخل الباحثين عن سيارات اقتصادية.
ونتيجةً لهذا النمو، تصدرت منطقة الشرق الأوسط، إلى جانب روسيا، قائمة الوجهات الرئيسية لصادرات السيارات الصينية، متفوقتينِ بذلك على أميركا الشمالية وأوروبا، حيث شكلت هاتان المنطقتان معاً 35 في المئة من إجمالي صادرات السيارات الصينية في عام 2024، ومن هذا المنعطف، فإن التحول في أنماط التجارة العالمية لا يُعد رمزياً فحسب، بل يعكس بوضوح كيف أصبحت منطقة الشرق الأوسط بسرعةٍ واحدةً من أكثر محركات النمو الاستراتيجية لأكبر دولة مصدرة للسيارات في العالم.أما الموجة الثانية، فهي مدفوعة بزخم الابتكار؛ إذ تجاوزت مجرد تقديم أسعار معقولة أو اقتناص حصة عند الدخول إلى السوق، لتتمحور هذه المرحلة الجديدة حول تحقيق الهيمنة من خلال الابتكار. يذكر أن الشركات الصينية المصنعة للمعدات تستفيد من أنظمة مساعدة القيادة الآلية المتقدمة، فعلى سبيل المثال تتوفر الآن هذه الأنظمة، المصنفة بالمستوى 2 أو أعلى فيما يقرب من 60 في المئة من السيارات المبيعة في الصين (حسب تقرير أليكس بارتنرز 2025)، متجاوزةً بذلك معدلات تبنيها في الولايات المتحدة بشكل ملحوظ، فضلاً عن ذلك فهي تشهد انتشاراً متزايداً في الطرازات المُصدّرة.في الوقت نفسه، تتسارع دورات تطوير المنتجات لدى شركات تصنيع السيارات الصينية، لتصل أحياناً إلى 22 شهراً فقط، مقارنةً بـ32 إلى 48 شهراً لدى شركات تصنيع السيارات العالمية التّقليديّة، ويأتي هذا بالتزامن مع تزايد ثقة المستهلكين بالسيارات الذكية التي تعتبر “جيدة بما يكفي”.ومن زاوية تحليلية عميقة، كشفت دراسة حديثة أجرتها شركة أليكس بارتنرز أن الصين تتصدر الريادة في تقنيات القيادة الذكية المتقدمة، مدعومةً بعوامل يصعب محاكاتها في مناطق أخرى. (وتشمل هذه العوامل على سبيل المثال لا الحصر: قاعدة مستهلكين أكثر تقبلاً للعيوب التي من الممكن أن تصاحب المنتجات المبتكرة، ونظام محلي متطوّر للرقائق الإلكترونية، ووفرة المواهب والكفاءات في مجال الذكاء الاصطناعي/ التعلم الآلي، بالإضافة إلى وجود قوانين تنظيمية أكثر مرونة لجمع وحماية البيانات).في موازاة ذلك، تُعزز شركات صناعة السيارات الصينيّة موقعها بفضل اعتمادها على منهجية هندسة القيمة، وتحولها نحو استخدام أدوات المحاكاة/الهندسة الرقمية وتقليل الاعتماد على النماذج الأولية المادية، وتبني هياكل تنظيمية تتيح اتخاذ القرارات بسرعة.في ضوء ذلك، أدركت شركات صناعة السيارات العالمية ريادة الصين في الابتكار، وتحاول بعضها التعلم من الشركات الصينية الكبرى من خلال عدة استراتيجيات، على سبيل المثال استثمرت “فولكس فاغن” في شركة صينية لتصنيع رقائق القيادة الذكية، وتعاونت مع “إكسبنغ” لتطوير بنية كهربائية/برمجية مشتركة، كما استثمرت “ستيلانتس” في “ليب موتور” لإضافة شركات تصنيع مركبات الطاقة الجديدة منخفضة التكلفة إلى محفظة علاماتها التجارية العالمية، وأنشأت إحدى الشركات الأوروبية الكبرى لتصنيع السيارات فريقاً متخصصاً في تطوير المنتجات والشراء مقره الصين، بهدف تطوير نماذج السيارات الكهربائية منخفضة التكلفة.في هذا الإطار، لا تنظر شركات صناعة السيارات الصينية إلى أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على أنها مجرد فرصة لتحقيق مبيعات على المدى القصير، بل توليها أهمية قصوى لتحقيق نمو مستدام، وفي ظل بيئة تجارية ملائمة وطلب قوي على سيارات مبتكرة وفعالية التكلفة، فمن المتوقع أن يتوسع حضور هذه الشركات بشكل كبير في المنطقة (وفقاً لتقرير أليكس بارتنرز 2025 ليصل إلى 34 في المئة من السوق بحلول عام 2030، مقارنةً بـ14 في المئة في عام 2024.أما عالمياً، فمن المتوقع أن ترتفع حصتها السوقية من 21 في المئة بعام 2024 إلى 30 في المئة بحلول عام 2030. وعلى الرغم من تزايد التعريفات الجمركية عالمياً، فإن تأثيرها لا يزال محدوداً في الوقت الحالي، وتشير توقعات تقرير أليكس بارتنرز 2025 إلى أن هذه التعريفات ستزيد التكاليف بمقدار 46 مليار دولار، لكنها لا تمثل سوى 3.8 في المئة من إجمالي قيمة إنتاج صناعة السيارات الصينية.في المقابل، تشهد صادرات الصين إلى منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا ارتفاعاً سريعاً، مدفوعةً بالسياسات التجارية الملائمة والطلب المتزايد على البدائل عالية التقنية وذات التكلفة المناسبة.وختاماً، ما نشهده اليوم ليس مجرد تدفق للسيارات الصينية فحسب، بل هو إعادة ترتيب للقوى ضمن صناعة السيارات العالمية، وعلى الأرجح، ستكون منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا في طليعة هذا التغيير، لقد كشفت الموجة الأولى من السيارات الصينية عن الإمكانات التي يمكن تحقيقها عند تقديم مركبات بسعر مناسب، أما الموجة الثانية، فمن المرجّح أن تكون أشدّ تأثيراً وأن تثبت أن الذكاء، والسرعة، والقدرة على التكيف مع متطلبات السوق هي من أهم المزايا التنافسية للصين.تستند البيانات المذكورة في هذه المقالة إلى “تقرير توقعات أليكس بارتنرز العالمية لصناعة السيارات لعام 2024″، و”تقرير أليكس بارتنرز لأنظمة المركبات الذكية والصادرات الصينية لعام 2025″، بالإضافة إلى معلومات من صحيفة “وول ستريت جورنال، حتى تاريخ أبريل 2025.