الاكتفاء التكنولوجي الذاتي: السيادة المستقبلية تُدوّن عبر البرمجة

الاكتفاء التكنولوجي الذاتي: السيادة المستقبلية تُدوّن عبر البرمجة

د. يسار جرار وهالة شحيدر*في هذا العصر المتسارع، تتغير قواعد النفوذ العالمي بوتيرة مذهلة، ولم تعد الجغرافيا تُرسم بالخرائط بل بالخوارزميات، في هذا السياق يبرز مفهوم جديد للسيادة، لا يعتمد على القوة العسكرية أو الثروات الطبيعية فحسب، بل على القدرة التكنولوجية، الاكتفاء الذاتي التكنولوجي لم يعد ترفاً فكرياً، بل خياراً وجودياً للدول التي تسعى لأن تبقى فاعلة في مشهد الاقتصاد العالمي الجديد.

لطالما ارتبط هذا المفهوم بمسائل مثل الزراعة أو الصناعات الأساسية، وكان يُفهم في بعض الأحيان كنوع من الانغلاق، إلا أن الواقع اليوم يعيد تشكيل المفاهيم؛ الاكتفاء الذاتي بات يعني امتلاك أدوات التكنولوجيا الحرجة، من الذكاء الاصطناعي وتصنيع الرقائق، إلى السحابة الوطنية وأنظمة التشغيل المستقلة.
الأزمات الجيوسياسية والاقتصادية الأخيرة فضحت هشاشة الاعتماد التكنولوجي على الخارج، رأينا كيف قيّدت الولايات المتحدة تصدير الرقائق المتقدمة إلى الصين، ما أدى إلى تجميد مشاريع استراتيجية، وواجهت أوروبا أزمة في الثقة بسلاسل التوريد البرمجية بعد الحرب في أوكرانيا، ما دفعها لإطلاق مبادرة “السيادة الرقمية” كمظلة لحماية الأمن السيبراني والبيانات، في آسيا، ضخّت كوريا الجنوبية أكثر من 450 مليار دولار لتعزيز صناعة الرقائق، فيما أعلنت الهند عن مبادرة “Atmanirbhar Bharat” لخفض الاعتماد التقني بنسبة 50% بحلول عام 2030.في هذا المشهد، لا تملك الدول قرارها السيادي الحقيقي ما لم تملك أدوات إنتاج التكنولوجيا، السيادة لم تعد فقط في الأرض أو السماء، بل في الشيفرة والبيانات والبنية الرقمية.الذكاء الاصطناعي، الذي بدأ كأداة إنتاج أو ترفيه، أصبح اليوم بنية تحتية خفية تحكم قراراتنا اليومية، من توصيات المحتوى إلى تصنيف المخاطر الائتمانية حتى التحكم بحركة المرور، وحسب تقرير معهد ستانفورد لعام 2024، فإن أكثر من 92% من نماذج اللغة الضخمة تُدار من قبل ست شركات أميركية فقط، والنتيجة؟ معظم دول العالم تظل مستخدمة، دون أن تمتلك القدرة على المساءلة أو الفهم الكامل لكيفية عمل هذه النماذج.وإذا كانت الحرية الرقمية تعني شيئاً، فهي أن نمتلك حق الوصول والتعديل والفهم، لا أن نكون مجرد مستهلكين لخوارزميات مغلقة تُحدد مصيرنا بصمت.على مستوى الحكومات، أصبح GovTech —أو التقنية الحكومية— هو العمود الفقري للاكتفاء الذاتي، الحكومات الفاعلة لم تعد تُقاس بقدرتها على سن القوانين فحسب، بل بقدرتها على تصميم وتشغيل خدمات رقمية تمتلكها بالكامل، إستونيا تمثل نموذجاً عالمياً متقدماً، حيث يمكن للمواطنين إتمام 99% من الخدمات الحكومية عبر الإنترنت، والإمارات بدورها طورت هوية رقمية وطنية، وبنية تحتية سحابية، وتشغّل أكثر من 6,000 خدمة حكومية رقمية متصلة.لكن لا بُد من شراكة متكاملة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع العلمي لبناء حلول محلية، سيادية ومبتكرة في آنٍ معاً.رأس المال البشري هو الثروة الحقيقية في عصر الكود، اليوم المفاخرة الحقيقية ليست بعدد براميل النفط، بل بعدد مهندسي البرمجيات ومطوري الذكاء الاصطناعي، الهند تُخرج 1.5 مليون مهندس سنوياً، والصين تجاوزت نسبة خريجي التخصصات التقنية فيها 45%، أما في العالم العربي، فما زال هناك فجوة تحتاج إلى استراتيجية وطنية لبناء الجيل القادم من “صانعي الخوارزميات”.وهنا ينبغي أن نؤكد؛ الاكتفاء الذاتي لا يعني الانعزال، بل هو شرط أساسي لدخول شراكات من موقع قوة، والتفاوض على أساس الندية، لا التبعية، إنه الانتقال من موقع المتلقي إلى المنتج، من الاستهلاك إلى الريادة.الدول التي تطمح إلى نهضة رقمية حقيقية لا يمكنها أن تبني مستقبلها على برمجيات مستوردة وعقول مستأجرة، السيادة التقنية لا تُشترى، بل تُبنى خطوة بخطوة، من التعليم، إلى البنية التحتية، إلى السياسات الصناعية الذكية.وفي الخليج تحديداً، تشهد المنطقة قفزة نوعية في هذا الاتجاه؛ الإمارات أطلقت برنامجاً وطنياً لتبني الذكاء الاصطناعي في الحكومة، وتعمل على إنشاء سحابة وطنية موحدة، وتستثمر في تدريب 100 ألف موظف حكومي على أدوات الذكاء الاصطناعي، والسعودية، من جهتها، أنشأت “سدايا” —الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي— ورصدت أكثر من 20 مليار دولار لمشاريع الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، من ضمنها تطوير نموذج لغوي عربي سيادي.هذه الجهود لا تكتفي بتحديث الخدمات، بل تُرسخ استقلالية تكنولوجية حقيقية، وهي البداية فقط.في عالم يُعاد رسم خرائطه بلغة الكود، فإن من لا يملك التكنولوجيا لن يملك المستقبل. *هالة شحيدر هي مديرة استراتيجية التكنولوجيا الحكومية والذكاء الاصطناعي في Gov Campusتم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.