استيقاظ العملاق الجنوبي… هل تصبح عسير الوجهة الاستثمارية المقبلة؟

حمل منتدى عسير للاستثمار الذي عقد من 27-28 مايو 2025 بنسخته الثانية رسالة ببعدين استراتيجيين شكلاً ومضموناً، يتعلق البعد الأول بمكان انعقاد المنتدى وهو جامعة الملك خالد بمنطقة الفرعاء والذي كان سابقاً مشروعاً متعثراً، أما اليوم فهو صرح جامعي ورياضي حيث يتم تأهيل ملعب الجامعة ليصبح واحداً من الملاعب المعتمدة لاستضافة كأس العالم 2034. المشروع سيرفع سعة الملعب من 12 ألفاً إلى أكثر من 45 ألف مقعد ليس فقط لاستيعاب الجماهير، بل لإرسال رسالة مفادها أن الجنوب لم يعد بعيداً عن السياق العالمي، بل داخله تماماً.
كنز جغرافي يعاد صياغته
وفي مداخلة مفصلة استعرض سلطان الشهري المدير التنفيذي للاستثمار في هيئة تطوير عسير أبرز التحديات التي خاضتها المنطقة معترفاً بتعثر نحو 60 مشروعاً استثمارياً، الأمر الذي أثار قلق المستثمرين من القطاع الخاص.
وأكد الشهري في لقاء خاص مع الـCNN الاقتصادية أن هذه المشاريع استعادت بريقها من خلال لجنة إزالة تحديات رجال الأعمال الذي أنشأت برئاسة الأمير تركي بن طلال أمير منطقة عسير لتذليل كل العقبات التي يواجهها المستثمرون في مشاريعهم.وخلال مداخلته في المنتدى عرض الشهري المنجزات المحققة منذ 2019 وحتى اليوم، وكانت البنية التحتية أبرز مؤشرات هذا التحول، فحاليا تحتضن عسير 49 مشروعاً نشطاً بقيمة 25.6 مليار ريال سعودي واستطاعت تحقيق مستهدف رؤية 2030 قبل 5 سنوات من استحقاقها حيث جذبت استثمارات خاصة قدرت بنحو 8 مليارات ريال.
إنجازات رغم الصعوبات
شهدت منطقة عسير خلال الفترة بين 2019 و2024 نقلة نوعية على مستوى الاستثمار والتنمية الحضرية، ففي الوقت الذي لم تتجاوز فيه الاستثمارات 1.1 مليار ريال على مدار 11 عاماً قبل 2019، قفز حجم الاستثمارات المنفذة في عام 2024 وحده إلى 1.7 مليار ريال، مع تحقيق نسبة إنجاز تجاوزت 75 في المئة من المشاريع المستهدفة.فعلى صعيد المياه، تحوّلت المنطقة من عجز يومي في التوزيع قدره 110 آلاف متر مكعب في عام 2019 إلى فائض يبلغ 10 آلاف متر مكعب يومياً بحلول 2024، كما ارتفعت نسبة تغطية المناطق الطرفية من 36 في المئة إلى 48 في المئة، وفي مجال النقل زادت الطاقة الاستيعابية لمطار أبها لتصل إلى 1.8 مليون مسافر سنوياً، بعد أن كانت 1.1 مليون، كما تم الانتهاء من 28 مشروع طرقات استراتيجياً كان معظمها متعثراً سابقاً. أما تقنياً، فارتفع عدد أبراج الجيل الخامس من صفر إلى 618 برجاً، وارتفعت سرعة الإنترنت من 23 ميغابت في الثانية إلى 108 ميغابت مع تنفيذ شبكة ألياف ضوئية شاملة غطت المناطق السكنية والمرافق الحيوية، ما أسهم في تمكين التحول الرقمي وخدمات المدن الذكية. كما تراجعت معدلات انقطاع الكهرباء من 8.57 مرة سنوياً (بمعدل 221 دقيقة) إلى 2.84 مرة فقط (بمعدل 85.2 دقيقة)، أما في قطاع الإسكان، فقد استفاد أكثر من 60 ألف شخص من مشاريع الإسكان المدعوم، مع وصول نسبة التغطية إلى 74 في المئة.وفي موازاة تنفيذ شبكة الألياف الضوئية، بدأت المنطقة تفعيل خدمات المدن الذكية وربطها بالبنية التحتية الرقمية ضمن مسار التحول الرقمي الوطني، مستفيدة من تغطية تجاوزت 60,847 مستفيداً في قطاع الإسكان.كذلك، وضعت عسير على خارطة الربط البري مع الساحل الغربي من خلال استكمال مشاريع الطرق الحيوية، في خطوة استراتيجية لتحويل المنطقة من نقطة داخلية معزولة إلى محور اقتصادي مفتوح.أما مطار أبها الذي دخل اليوم مرحلة المناقصات لتوسعة قدراته الاستيعابية لما يقارب 13 مليون مسافر سنوياً، فتنتهي المرحلة الأولى منه في عام 2028. أما مشروع مدينة الملك فيصل الطبية، المتوقف لأكثر من عقد، فقد تم إنجاز 95 في المئة منه أخيراً.كل ذلك في وقت تتجه فيه المنطقة إلى رفع مساهمتها في الناتج المحلي الوطني إلى 67 مليار ريال مع مساهمة إضافية من المشاريع الاستراتيجية بقيمة 4 مليارات ريال وبمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 3.8 في المئة ضمن مستهدفات رؤية السعودية 2030 كما ورد في تقارير هيئة تطوير عسير الذي أشار إلى توليد نحو 94 ألف وظيفة جديدة مع التركيز على قطاع السياحة.
السياحة في الصدارة
وتُوّج هذا التحول بتحقيق مستهدف جذب 8 ملايين زائر سنوياً، ما يضع عسير في صدارة المشهد التنموي ضمن رؤية السعودية 2030 «فعسير تقارع من حيث عدد السياح أبرز الدول»، كما وصف وزير السياحة السعودي أحمد الخطيب خلال جلسات المنتدى. وتشير بيانات وزارة السياحة أنه خلال الربع الأول من عام 2025، استقبلت عسير 1.4 مليون سائح محلي، بزيادة 11 في المئة على أساس سنوي، فيما قفز عدد الزوار الدوليين بنسبة 42 في المئة ليبلغ قرابة 69 ألف زائر.
تكامل في الرؤية
وفي العمق، هناك تحول أكثر دقة يجري في السياسات، حيث شدد ماجد القصبي وزير التجارة السعودي في مداخلة مرئية عبر الإنترنت على أن التركيز هو على محاربة البيروقراطية غير الصحية، لافتاً إلى أن المملكة دفعت بأكثر من 900 إصلاح في أنظمة المواصفات وأن البنى التحتية القانونية والتنظيمية هي «بوابة الأمان» للاستثمار في إطار رؤية 2030. وبينما تتركز معظم هذه الإصلاحات في المدن الكبرى، فإن عسير باتت اليوم المختبر الحقيقي لفاعلية هذه السياسات ليصبح الإصلاح يقاس لا يقرأ من حيث عدد المراكز الحكومية والتراخيص المنجزة والنزاعات المحلولة. وبينما تسعى الرياض إلى توسيع حضورها التجاري عالمياً، فإن قدرتها على التصدير لا تتوقف فقط على المفاوضات الدولية، بل على مدى جاهزية المناطق الداخلية للاستفادة منها.وكشف الوزير وجود نحو 21 ملحقية تجارية و54 مجلس أعمال و20 اتفاقية تجارة حرة بحلول 2030، معقباً لكن كل ذلك لن يصنع فرقاً ما لم تكن المطارات قادرة، ال موثوقة، والمنتجات قابلة للتصدير، وهذا بالضبط ما تحاول عسير تأمينه.ولاكتمال المنظومة الداعمة شدد محمد القويز رئيس مجلس هيئة السوق المالية على أن تنوع الأدوات الاستثمارية والمالية إلى جانب تنوع فئات المستثمرين التي توفرها السوق المالية السعودية باتت عنصراً مهماً لاستقرار سوق التمويل لافتاً إلى أن 60 في المئة من الشركات المدرجة هي شركات متوسطة صغيرة للتأكيد على أن السوق المالية لم تعد نخبوية بل شمولية. وتسهم منطقة عسير في السوق المالية السعودية من خلال شركتين مدرجتين هما: شركة عسير القابضة، العاملة في قطاعات متعددة، وشركة أسمنت الجنوبية، إحدى أبرز شركات صناعة الأسمنت في المملكة، ويعكس هذا الوجود دور المنطقة في دعم التنوع الاقتصادي وتوسيع قاعدة الاستثمار الوطني.وأخيراً لا تسعى عسير فقط إلى بناء مشاريع بل تحاول أن تبني الجاهزية لتكون مختبراً عملياً لفكرة تحقيق التنمية الحضرية المتوازنة.