سوريا وصندوق النقد الدولي: هل أخذ جهاد أزعور بآراء بيرم التونسي؟

على مدار نحو 4 سنوات وتحديداً بين عامي 1958 و1961، وهي سنوات الوحدة بين مصر وسوريا، حينها كانت الإذاعات العربية تضج بأغنية لبيرم التونسى بعنوان «وحدة ما يغلبها غلاب» ويقول مطلعها: «وأنا واقف فوق الأهرام.. قدامي بساتين الشام»، ومنذ علمت بتجهيز بعثة صندوق النقد الدولي إلى سوريا وقد قفزت في رأسي وبأذني ما قاله التونسي قبل 67 عاماً.
لكن هذا الدور تحوّل عبر العقود إلى أداة مثيرة للجدل، وُجهت إليه انتقادات واسعة من خبراء اقتصاديين، سياسيين، ومنظمات حقوقية، بسبب السياسات التقشفية القاسية التي يشترطها على الدول المقترضة، ما أدى في حالات كثيرة إلى انهيارات اقتصادية واجتماعية.
شروط قاسية تفرض الفقر
ورغم أن هذه السياسات تهدف إلى استعادة التوازن المالي، فإن نتائجها على أرض الواقع كانت كارثية في العديد من الدول، حيث أدت إلى تدهور مستوى المعيشة، وارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفقر، وأحياناً إلى اضطرابات سياسية واجتماعية وانهيارات والنماذج تحصى وتعد.
الأرجنتين.. 24 عاماً من الانزلاق
تُعد الأرجنتين من أبرز الأمثلة على فشل برامج صندوق النقد، ففي عام 2001، وبعد سنوات من التقشف وسداد الديون بإشراف الصندوق، انهار الاقتصاد الأرجنتيني، وأعلنت البلاد أكبر حالة إفلاس سيادي في التاريخ، مع ديون تجاوزت 100 مليار دولار. تفاقم الفقر، واندلعت احتجاجات أودت بالحكومة وفي 2018، عاد الصندوق بقرض جديد قيمته 57 مليار دولار، وهو الأكبر في تاريخه، لكن النتائج لم تختلف كثيراً، وواصلت البلاد الانزلاق في أزمة.
اليونان.. ديون خانقة
بعد الأزمة المالية العالمية، واجهت اليونان أزمة ديون خانقة بين 2010 و2015، وتدخل صندوق النقد إلى جانب الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي ببرنامج إنقاذ مشروط بالتقشف، فُرضت تخفيضات هائلة على الرواتب والمعاشات، وارتفعت البطالة إلى أكثر من 27%. ورغم القروض الضخمة، تراجع الناتج المحلي بنسبة 25%، وانتشرت الهجرة والفقر، ما أثار انتقادات بأن برامج الصندوق زادت من عمق الأزمة.
إندونيسيا.. التقشف الصارم
خلال الأزمة المالية الآسيوية، تدخل صندوق النقد في إندونيسيا في 1997 ببرنامج تقشفي صارم، شمل رفع الدعم عن الوقود والسلع الأساسية، النتيجة كانت انهيار العملة، وتضخم تجاوز 70%، وموجة من العنف والاحتجاجات أطاحت بالرئيس سوهارتو بعد 32 عاماً من الحكم.
زامبيا.. نوايا الإصلاح لم تفلح
في التسعينيات، طبقت زامبيا برامج إصلاح هيكلي بإشراف الصندوق، تضمنت خصخصة الشركات الحكومية ورفع الدعم، ورغم نوايا الإصلاح، تدهور القطاع الصناعي، وارتفعت البطالة، وانخفضت القدرة الشرائية، بينما استفادت النخبة المالية من عمليات الخصخصة.
مصر وصندوق النقد
في 2016، حصلت مصر على قرض من الصندوق بقيمة 12 مليار دولار مقابل تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي شمل تعويم الجنيه، ورفع الدعم التدريجي، وزيادة الضرائب. ورغم تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي، فإن التضخم ارتفع إلى مستويات قياسية، وتدهور مستوى المعيشة للطبقات المتوسطة والفقيرة. عادت مصر في 2022 و2024 للحصول على برامج جديدة، وسط انتقادات محلية ودولية بأن الصندوق يعمّق الفجوة الاجتماعية ولا يقدم حلولاً مستدامة.
نقد دائم لنهج لا يتغير
تقول العديد من الدراسات إن صندوق النقد يعتمد مقاربة واحدة تناسب الجميع (One-size-fits-all)، دون مراعاة الفروق الاجتماعية والسياسية لكل دولة، كما يُتهم بتكريس التبعية الاقتصادية، وخدمة مصالح الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، صاحبة النفوذ الأكبر في الصندوق.
سوريا وصندوق النقد.. علاقة شكلية
انضمت سوريا إلى صندوق النقد الدولي في عام 1947 كعضو مؤسس، لكن علاقتها بالصندوق ظلت شكلية ومحدودة طوال العقود التالية، ويرجع ذلك إلى عدة عوامل سياسية واقتصادية، أبرزها توجه الاقتصاد السوري نحو النموذج الاشتراكي منذ الستينيات، واعتماد الدولة على التخطيط المركزي ودور قوي للقطاع العام، ما جعله بعيداً عن توجهات وسياسات الصندوق القائمة على الليبرالية الاقتصادية والسوق المفتوحة.كان آخر شكل من أشكال التعاون بين صندوق النقد الدولي وسوريا في إطار المشاورات الفنية غير الرسمية التي جرت قبل اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، وذلك خلال مرحلة الانفتاح الاقتصادي المحدود التي بدأت مطلع الألفينيات في عهد بشار الأسد.
مشاورات المادة الرابعة
ورغم أن سوريا لم تدخل أبداً في برنامج تمويلي رسمي مع الصندوق، فقد تمّت بعض اللقاءات الفنية بين مسؤولي الصندوق والحكومة السورية بين 2005 و2010، حيث قدم الصندوق استشارات اقتصادية ضمن ما يُعرف بمشاورات المادة الرابعة، وهي مراجعات دورية يقوم بها الصندوق لاقتصادات الدول الأعضاء.كانت تلك الاستشارات تركز على قضايا مثل: إصلاح السياسة المالية العامة وإصلاح القطاع المصرفي وتحرير الأسعار تدريجياً، وكذلك تقليل الدعم الحكومي، إلا أن الحكومة السورية لم تتبنَّ رسمياً معظم التوصيات، ورفضت أي اتفاق مشروط أو تمويلي.بعد اندلاع الحرب في 2011، انقطع أي تعاون فعلي بين سوريا والصندوق، ولم تعد هناك أي مشاورات رسمية أو دعم مالي أو فني، ومنذ ذلك الحين كان صندوق النقد يكتفي فقط بإدراج سوريا في تقاريره العامة عن الشرق الأوسط، دون أي تواصل رسمي أو برامج نشطة.تاريخياً فإن آخر تواصل تقني يُعتبر تعاوناً محدوداً بين سوريا وصندوق النقد كان بين 2005 و2010، ولم يتطور إلى أي برنامج إصلاح أو تمويل، ومنذ 2011 لا يوجد أي تعاون فعلي أو رسمي بين الجانبين، حتى أعلن السيد جهاد أزعور مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، أن بعثة من الصندوق في طريقها إلى سوريا لتقييم الأوضاع المالية والاقتصادية، هنا عادت آذاني تسمع بصوت خافت أنشودة الوحدة لبيرم التونسي وباتت الكلمات تصل لأم عقلي «وأنا واقف فوق الأهرام.. مو شايف بساتين الشام».
الخلاصة.. نتائج عكسية
رغم نوايا الإصلاح والاستقرار التي يطرحها صندوق النقد الدولي، فإن تاريخه مليء بالأمثلة التي تشير إلى نتائج عكسية، إذ غالباً ما كانت تدخلاته تؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ويظل السؤال مفتوحاً: هل يمكن لصندوق النقد أن يغيّر نهجه نحو نماذج أكثر عدالة واستدامة؟ أم سيبقى أداة لإعادة إنتاج الأزمات تحت مسمى «الإصلاح الاقتصادي»؟في ظني وبعض الظن حق، لن يغير الصندوق فلسفته ولن يغير أداواته في تركيع من أراد والتجارب كثر والنتيجة واحدة؛ إن مندوبي صندوق النقد إذا دخلوا بلداً أفسدوه.