الإحصائيات تتحدث.. «الحج» اقتصاد يرتفع إلى ذروته

الإحصائيات تتحدث.. «الحج» اقتصاد يرتفع إلى ذروته

في كل عام يتوافد ملايين المسلمين إلى السعودية للمشاركة في فريضة الحج، وتتجلى في هذه الرحلة الإيمانية عائدات اقتصادية ضخمة. ومع تزايد أعداد الحجاج ورؤية المملكة 2030 لتنمية السياحة الدينية، بات الحج رافداً استراتيجياً لاقتصاد السعودية.

ويُنتظر أن يصل إجمالي ضيوف الرحمن، شامل العمرة على مدار العام، إلى مستويات قياسية. فقد صرّح وزير الحج الدكتور توفيق الربيعة بأن أعداد الحجاج والمعتمرين اقتربت من 18.5 مليون في 2024.جاء ذلك في كلمة للوزير خلال إطلاق نسخة تطبيق «نسك» المحدّثة بـ100 خدمة إضافية، وأضاف الربيعة أن عدد زوار الروضة الشريفة ارتفع إلى أكثر من 13 مليون زائر في 2024. تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء إلى أن غالبية الحجاج القادمين من خارج المملكة هذا العام ينتمون إلى الدول الآسيوية غير العربية، إذ شكّلوا 63.3 في المئة من إجمالي الحجاج القادمين من الخارج.كما تُظهر الأرقام الرسمية أن الغالبية العظمى من الحجاج القادمين من خارج المملكة هذا العام وصلوا عبر المنافذ الجوية، حيث بلغ عددهم أكثر من 1.54 مليون حاج، أي ما يُقارب 96 في المئة من إجمالي حجاج الخارج. في المقابل، وصل نحو 60 ألف حاج عبر المنافذ البرية، بنسبة تقارب 3.7 في المئة، وهي تمثّل بشكلٍ رئيسي الحجاج من دول الخليج والدول القريبة مثل الأردن. أما المنافذ البحرية، فقد شهدت قدوم أقل عدد من الحجاج، إذ لم يتجاوزوا 4,700 حاج، بنسبة أقل من 0.3 في المئة فقط.

الحج محرك اقتصادي شامل

يحظى الحج بأهمية متنامية في مسار تنويع الاقتصاد السعودي بعيداً عن النفط، إذ يُقدّر بعض الاقتصاديين أن تتجاوز إيرادات الحج والعمرة 40 مليار ريال سنوياً، أي ما يعادل 10.7 مليون دولار تقريباً، مشيرين إلى أن هذه الإيرادات تصبُّ في صالح القطاع الخاص وليس في خزينة الدولة، ولا تمثل من الناتج المحلي أكثر من 4 في المئة. ومتوقع أن تتجاوز هذه الإيرادات 50 مليار ريال سنوياً، ما يعادل 13.3 مليار دولار تقريباً بعد تحقيق أهداف «رؤية 2030».ومن منظور آخر، أشار تقرير صحفي إخباري إلى أن الحج والعمرة يضيفان نحو 12 مليار دولار سنوياً لاقتصاد السعودية، بما نسبته نحو 7 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وكذلك 20 في المئة من الناتج غير النفطي.هذا الفارق بين التقديرات يعود لاختلاف الأسس المحاسبية مثل احتساب الإنفاق الكلي للحاج مقابل الإيرادات الخاضعة للإحصاء)، لكنه يؤكد في النهاية الدور الاقتصادي المعتبر للحج ضمن منظومة السياحة الدينية. وقد حقق قطاع السياحة الدينية ككل قفزات ملحوظة بفضل الحوافز ورؤية 2030.. ففي 2024 مثلاً أصبحت مساهمة السياحة في الاقتصاد السعودي نحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 3 في المئة في 2019، مع استراتيجية واضحة لزيادة الحصة إلى 10 في المئة بحلول 2030. ويُتوقع أن يلعب الحج والعمرة دوراً رئيسياً في هذا النمو مدفوعاً بتسهيل إجراءات التأشيرات وتطوير البنية التحتية (للمطارات والفنادق والنقل والمرافق).على صعيد العمالة، تستقطب صناعة الحج والعمرة آلاف فرص العمل. ورغم غياب رقم رسمي موحّد، أشارت دراسات إلى أن أكثر من نصف مليون شخص يعملون مباشرة في قطاع السياحة في السعودية، معظمهم في السياحة الدينية.ويقول مراقبون إن كل مئات الآلاف من الحجاج يحتاجون إلى آلاف العاملين في الفنادق والنقل والإعاشة والاستقبال والصحة، ناهيك عن آلاف الإضافيين في الإشراف والخدمات الحكومية. كما وظّفت الاستثمارات الضخمة في مشاريع الحج آلاف العمال الأجانب والمحليين في أبراج الفنادق والمشاريع الإنشائية الخاصة بالأماكن المقدسة.

حج المستقبل.. بنية تحتية عملاقة

لم تترك السعودية أمراً يتعلق بالخدمات اللوجستية دون تجديد. على سبيل المثال، دشّنت المملكة خلال الأعوام الأخيرة أكبر محطة تبريد في العالم داخل الحرم المكي لترطيب الهواء وتلطيفه للحجاج. كما افتتحت قطار المشاعر المقدسة بطاقة استيعابية تبلغ 72 ألف حاج في الساعة لنقل أكثر من 350 ألف حاج بين منى وعرفات، ويعمل القطار بالطاقة الكهربائية صديقة البيئة. وعلى مدار عام 2024 جهّزت البلاد ستة مطارات لاستقبال رحلات الحج، بتسيير نحو 7,700 رحلة جوية تحمل 3.4 مليون مقعد للسفر. ويتكامل ذلك مع شبكة النقل الأخرى، قطار الحرمين السريع (المتجه بين مكة والمدينة) بسعة 1.6 مليون مقعد، وحافلات نقل ضيوف الرحمن البالغ عددها 27 ألف حافلة. كما توسع القطاع الفندقي بشكلٍ غير مسبوق. فوفق إحصائيات وزارة السياحة السعودية وصل عدد مرافق الضيافة المرخصة في مكة المكرمة إلى 816 منشأة بأكثر من 227 ألف غرفة، بارتفاع ملحوظ بنسبة 38 في المئة في عدد الغرف خلال الربع الأول 2024 مقارنة بنفس الفترة من العام السابق. وتعمل فنادق خمس نجوم جديدة ضخمة أمام الحرم لاستقبال حاج العالم، بما في ذلك مشروع «أبراج البيت» الشهير، ويؤكد المسؤولون الفندقيون ازدحام الغرف الفندقية، نسبة الإشغال 100 في المئة في فصل الحج، رغم الأسعار الباهظة، إذ تستقبل أجنحة الفنادق الفاخرة آلاف الحجّاج من أوروبا وآسيا الباحثين عن الراحة.تدعم هذه البنية أيضاً المطارات والسكك الحديدية والطرقات.. فمنذ سنوات وضعت الحكومة خطة شاملة لتطوير مطار الملك عبد العزيز الدولي في جدة وتوسعة مطار المدينة. وعلى سبيل المثال، خصّصت السعودية كوادر بشرياً تزيد على 21 ألف موظف لدعم ضيوف الرحمن في المطارات بجدة وينبع ومدينة الملك عبد العزيز، ومليونين ونصف المليون مقعد إضافي على رحلات الحج الدولي. ويسهم كل هذا الإنفاق على البنى التحتية والفندقية ونقل ومطارات في تنشيط قطاعات البناء والتشييد واللوجستيات، ما يزيد الأثر الاقتصادي للحج لما بعد انتهاء المناسك.

اقتصاد الحج على المستوى الجزئي

من زاوية الفرد والشركات، تحولت رحلة الحج إلى صناعة متكاملة يقدمها القطاع الخاص، ففي السعودية أكثر من 45 شركة مرخصة لتنظيم حملات الحج والعمرة. وتقدّم هذه الشركات باقات متنوعة تناسب مختلف القدرات المادية، فالباقة الأساسية للحاج السعودي تبدأ عادة من 10,000–15,000 ريال للشخص، أي نحو 2,700–4,000 دولار، وتشمل الإقامة المتوسطة والتنقل بالحافلات والإعاشة البسيطة. أما الباقات الفاخرة فتتراوح تكلفتها بين 20,000 و40,000 ريال للفرد، وتتضمن الإقامة في فنادق خمس نجوم، ورحلات نقل خاصة جوية أو بريّة، ووجبات فندقية. إضافة إلى ذلك تفرض الحكومة رسوم تأشيرة حج تختلف بحسب جنسية الحاج، وتتراوح حالياً بين 300 إلى 500 ريالاً، حوالي 80–130 دولاراً.ويُظهر سلوك الحج والسلوك الشرائي آثاراً واضحة، فقد كشفت دراسة أن غالبية إنفاق الحجاج تذهب إلى «السكن والنقل»، نحو 40 في المئة و31 في المئة من إجمالي النفقات على التوالي، يليهما شراء الهدايا والسلع التذكارية بنسبة 14 في المئة، ثم الإنفاق على الغذاء بنحو 10 في المئة.وبذلك تعمّق زيارة الحاج الأسواق المحلية، إذ يزور ضيوف الرحمن المحلات لشراء الذهب والمصوغات والملابس والأدوات الدينية والهدايا، مما يعزز إيرادات تجارة التجزئة والخدمات. ويضيف ذلك فروع مثل قطاع المأكولات (مطاعم ومطابخ) وشركات النقل الخاصة ورجال الأعمال الذين يقدمون خدمات إضافية للحجاج.على الجانب الآخر، لا تمثل إيرادات الحج دخلاً مباشراً للدولة بقدر ما يستفيد منها القطاع الخاص.. فالرسوم الحكومية من تأشيرات وما إلى ذلك، تمثل فقط جزءاً صغيراً، فيما تذهب الغالبية الساحقة من العوائد المباشرة إلى الشركات السياحية والفندقية والنقل والخدمات. لذلك، تركز رؤية المسؤولين على جعل الحج «مورداً اقتصادياً حيوياً» يدعم تنويع الاقتصاد.. وقد تناول بيان رسمي كيف ساهم الحج في توجيه الاستثمارات المحلية والأجنبية، إذ تخلق مشاريع الحج فرص عمل عديدة وتزيد نسب إشغال الفنادق ومبيعات التجارة، وتدفع نمو قطاعات مصاحبة كالمأكولات والمشروبات والتجزئة، خاصة خلال موسم الحج وبعده في زيارة المدينة والقصيم مثلاً. تتضمن التحديات المستقبلية إعادة شريحة أكبر من فوائض هذه العائدات إلى خزينة الدولة وتوجيهها في مشروعات أكبر؛ فحتى الآن، ثلثا هذه الإيرادات يستفيد منه القطاع الخاص بالأساس. ولهذا تعمل الحكومة على ابتكار أدوات تمويل جديدة لتهيئة مناطق التطوير حول المشاعر، وتشجيع الاستثمارات في الإعلام والترفيه والخدمات الذكية خلال الحج لضمان تحقيق فائض اقتصادي مستدام.

الخلاصة والاتجاهات المستقبلية

يتضح أن موسم الحج يعد من أهم المناسبات الاقتصادية في السعودية، فهو يجمع بين هدفين، تعزيز الاقتصاد الوطني وتنويعه من جهة، والارتقاء بتجربة الحج الدينية من جهة أخرى. تزامناً مع مبادرات رؤية 2030، يبرز أثر الحج في دعم الاقتصاد السعودي بصورة مستدامة.. من توسع ريع السياحة الدينية، إيرادات تُقاس بالمليارات سنوياً، إلى خلق فرص عمل لآلاف المواطنين والخليجيين. ومع سعي المملكة لاستيعاب أعداد أكبر، هدفٌ معلن بـ30 مليون معتمر بحلول 2030، فإن الأرقام المتوقعة تتحرك نحو مزيد من التنويع والاستثمارات.تبقى التحديات الكبرى جاهزة، إدارة الأعداد الضخمة في حشود آمنة، والحفاظ على جودة الخدمات، ومواجهة آثار التغيرات المناخية مثل ارتفاع الحرارة، ومشكلة البُنى التحتية الشاملة. أما الفرص، فتتمثل في دفع النمو السياحي على مدار العام (العمرة)، وتعزيز الابتكار التقني، وربط الحج بالنمو الاقتصادي في المناطق المجاورة (المدينة المنورة ومناطق أعمال المرتبطة). كل هذا يجعل من الحج قصة اقتصادية سنوية يطغى عليها البعد الإنساني المقدس، لكنه بالمقابل يشكّل رافداً اقتصاديًا يستحق الدراسة والاهتمام الدولي والمحلي على حد سواء.