رسوم ترامب تفتح باب التصعيد بين أوروبا ووادي السيلكون

تخيّل أنك تدير عملك من برلين، تخزّن بياناتك في سحابة أميركية، ترسل فواتيرك عبر نظام SaaS (البرمجيات كخدمة)، وتعتمد على أدوات رقمية لا تلمسها بيدك لكنها تحرّك كل تفاصيل حياتك اليومية، ثم في لحظة سياسية مشحونة، تقرر أوروبا الرد على رسوم ترامب الجمركية ليس بفرض رسوم على السيارات أو الفولاذ، بل على الخدمات والتكنولوجيا التي تُبقي عالمك الرقمي حياً.
وسبق أن عارضت واشنطن أي إجراء ضريبي يفرض على شركات التكنولوجيا واعتبرته تمييزياً، وذلك عندما استهدفت فرنسا من خلال «الضريبة الرقمية الفرنسية» عام 2019 شركات التكنولوجيا الكبرى خصوصاً الأميركية واستكملت العمل بها كونها تعتبر أن المسألة هي سيادية إلى حين التوصل إلى نظام ضريبي عالمي موحد على الشركات الرقمية.
صراع رقمي وقال يسار جرار أستاذ كلية هولت للأعمال، الولايات المتحدة والمدير التنفيذي لـGov Campus لـCNN الاقتصادية إن أوروبا اليوم أمام قرار مصيري. فإما أن تظل ضمن النظام الرقمي العالمي بقيادة أميركية، بكل ما يحمله من تبعية أو أن تبني نموذجاً مستقلاً ومرناً وسيادياً، رغم احتمالات الصدام مع قوى كبرى.فالمرحلة القادمة، كما اختصرها جرار لن تكون «صراع تعريفات فقط، بل صراع نماذج رقمية وابتكار وقيم، والرابح سيكون من يملك نظاماً رقمياً ومرناً وسيادياً ومبتكراً».وأفاد أحمد رشاد أستاذ الاقتصاد والباحث في منتدى البحوث الاقتصادية لـCNN الاقتصادية بأن أوروبا تسعى من خلال مبادرة اليورو الرقمي إلى تقليل الاعتماد على الدولار كخطوة نحو استقلاليتها المالية أما البحث في مسألة إخضاع الخدمات التكنولوجية للرسوم الجمركية والضرائب فهي رد فعل على ممارسات الإدارة الأميركية الحالية حيث أدركت أوروبا أن أميركا ليست شريكاً يعتمد عليه. رسوم على الخدمات؟تفصل منظمة التجارة العالمية بشكل واضح بين السلع والخدمات، فالرسوم الجمركية تُفرض فقط على السلع المادية العابرة للحدود (مثل الإلكترونيات أو السيارات)، أما الخدمات، وخصوصاً تلك المقدّمة إلكترونياً، فهي تخضع لأطر تنظيمية مختلفة تُناقش ضمن اتفاقية “GATS”، اتفاقية التجارة في الخدمات.وتنص هذه الاتفاقية، التي تُعد ركناً أساسياً في هيكل المنظمة على تحرير التجارة في الخدمات وفتح الأسواق أمام مزودي الخدمات الأجانب، ولكنها لا تشمل فرض رسوم جمركية على الخدمات، بل تركز على تقليل الحواجز غير الجمركية مثل القيود التنظيمية والتمييز بين المزودين المحليين والأجانب.واعتمدت منظمة التجارة العالمية منذ عام 1998 تجميداً مؤقتاً (Moratorium) على فرض الرسوم الجمركية على الانتقالات الإلكترونية (مثل تنزيل البرمجيات، الكتب الإلكترونية، الأفلام، قواعد البيانات…)، وقد تم تمديد هذا التجميد في كل اجتماع وزاري حتى آخر تمديد في يونيو 2022 رغم مطالبات بعض الدول، مثل الهند وجنوب إفريقيا، بإعادة النظر في هذا التجميد، لكنه لا يزال قائماً حتى الآن. ويعلّق جرّار أن ذلك يسلط الضوء على واحدة من أهم القضايا الجيواقتصادية في الحقبة الحالية: التحول من العولمة إلى التكتلات الاقتصادية التقنية، أوما يُعرف بـ«الجغرافيا الجديدة للتكنولوجيا»، وقال في الوقت الحالي، لا يُسمح بفرض تعريفات على الخدمات الرقمية والتكنولوجية (مثل الحوسبة السحابية، الذكاء الاصطناعي، والخدمات الرقمية الأخرى) بموجب اتفاقية وقف فرض الرسوم الجمركية على الإرسال الإلكتروني، وهي اتفاقية غير ملزمة ولكن تم تمديدها باستمرار منذ 1998.وقد تم تمديد العمل بتعليق هذه التعريفات حتى 2026، رغم اعتراضات بعض الدول النامية، لكن يحق لأي دولة، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، الانسحاب من هذا التعليق من جانب واحد إن رغبت في ذلك، ما يفتح الباب أمام فرض تعريفات على الخدمات التكنولوجية. وأضاف «نظرياً، يمكن لأوروبا فرض تعريفات، ولكن سيُنظر إلى ذلك على أنه كسرٌ لإجماع دولي هش، ما قد يؤدي إلى ردود قاسية، خاصة من أميركا» وقالت صوفي ألترمات، محللة سياسات تكنولوجية أوروبية «إن ما نراه اليوم هو تسليح الكود والسحابة والخطر الأكبر ليس اقتصادياً فحسب، بل بنيوياً».تبعية أميركية شكلت الخدمات القابلة للتقديم رقمياً نحو 73% من إجمالي لصادرات الأميركية من الخدمات في عام 2022 وتحافظ الولايات المتحدة على فائض تجاري كبير في الخدمات الرقمية مع الاتحاد الأوروبي.ففي عام 2022 بلغ فائض الولايات المتحدة في تجارة الخدمات المُمكّنة رقمياً مع الاتحاد الأوروبي نحو 103 مليارات دولار، في حين بلغت مبيعات الخدمات التي تقدمها الفروع التابعة للشركات الأميركية في أوروبا نحو 1.1 تريليون دولار عام 2021 وفق آخر إحصائيات تقرير الاقتصاد عبر الأطلسي 2024.وتظهر هذه الأرقام عمق الاقتصاد الرقمي عبر الأطلسي والدور الكبير الذي تلعبه تجارة الخدمات بين أميركا وأوروبا.وتُسيطر الشركات الأميركية العملاقة مثل Amazon Web Services وMicrosoft Azure وGoogle Cloud على أكثر من 65% من سوق البنية التحتية السحابية في أوروبا، وتعتمد عليها قطاعات حيوية مثل التجزئة والرعاية الصحية.ولمواجهة هيمنة شركات التكنولوجيا الأميركية تسعى أوروبا إلى تقليص اعتمادها على التكنولوجيا الأميركية منذ سنوات، وذلك من خلال عدة مبادرات أبرزها اليورو الرقمي، وتنظيم الأصول المشفرة (MiCA)، و”قانون الأسواق الرقمية” (DMA) و”قانون البيانات” التي تعكس توجهاً أوسع نحو السيادة الرقمية بهدف ضمان سيطرة أوروبية على البيانات والبنية والمنصات.وتضغط هذه القوانين على الشركات الأميركية حيث اضطرت في عام 2024 منصات كبرى مثل “بينانس” و”كوينبيس” إلى سحب التعامل بـUSDT، العملة المستقرة الأكثر تداولاً عالمياً، من السوق الأوروبية التزاماً بقواعد MiCA، ما ترك تداعيات على الشركات الناشئة التي كانت تعتمد على هذه العملة لتسوية مدفوعاتها أو التعامل مع السيولة، واضطرت لإعادة هيكلة عملياتها، ما أدى إلى تكاليف إضافية وتأخير في الإطلاق أو التوسع.ويُظهر هذا التوجه تشدداً في موجب التزام المنصات الأميركية بالقوانين المرعية الإجراء تحت طائلة استقصائها من سوق الاتحاد الأوروبي.كما شهدت استثمارات التكنولوجيا في أوروبا عمليات إعادة تموضع فبحسب Payments Cards & Mobile، ارتفعت استثمارات التكنولوجيا المالية في أوروبا بنسبة 10% عام 2024 لتبلغ 8.7 مليار دولار، لكن هذا الرقم يُخفي تحولاً نوعياً، فالأموال تتدفق نحو الشركات المتوافقة مع MiCA، خاصة تلك التي تطوّر عملات مستقرة مدعومة باليورو أو أدوات الامتثال، أما المشاريع ذات الطابع العالمي أو القائمة على بروتوكولات أميركية، فتواجه تراجعاً في التمويل وتردداً استثمارياً.هل يكون الابتكار ضحية؟ ويرى جرّار أن هناك تداعيات إيجابية وسلبية لفرض الرسوم على الخدمات التكنولوجية، وتتمثل «الإيجابيات لأوروبا بدعم الاستقلالية الاستراتيجية الرقمية وتعزيز الاستثمار في سلاسل التوريد الأوروبية للخدمات الرقمية مثل Gaia-X، وتحفيز الشركات الأوروبية على تطوير حلول بديلة محلية وعدم الاعتماد على Amazon Web Services أو Alibaba Cloud.. ولكن هناك أيضاً سلبيات تظهر في ارتفاع تكاليف الابتكار الرقمي بسبب انكماش المنافسة العالمي وتأخر الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة في بعض القطاعات إلى جانب مخاوف من ردود انتقامية من قبل الصين والولايات المتحدة قد تستهدف قطاعات أوروبية حساسة».وأوضح جرّار أن “الاتجاه السائد حالياً هو نحو (تجزئة العولمة) أو Fragmentation، حيث تتشكل تكتلات تجارية وتقنية مستقلة كـالولايات المتحدة وحلفائها، الصين ومجموعة البريكس، وأوروبا، هذا يقود إلى انقسام الإنترنت وسلاسل التوريد مشبهاً ذلك بحرب باردة رقمية ومحذراً من أثر ذلك على منظمة التجارة العالمية. مفترق طرق ويعتقد رشاد أن دور منظمة التجارة العالمية بدأ يتراجع لكنه لم يضمحل كلياً وسط انخفاض نسبة التجارة التي تتم تحت قواعد منظمة التجارة وتوقعات بانكماش التجارة العالمية بنسبة 1% بعد أن كانت التوقعات تشير إلى نسبة نمو تناهز الـ4%. وقال تفتقر هذه المنظمة إلى السلطات حيث هي منصة تقوم على التوافق بين الدول وهذا التصعيد يشكل تحدياً بارزاً بالنسبة لها لا سيما أن أهدافها الرئيسية هي تحرير التجارة وتخفيف الحواجز التجارية إنما يسير العالم بالاتجاه المعاكس نحو الإغلاق الاقتصادي من قبل أكبر اقتصادات العالم حيث ارتفعت مستويات الحواجز التجارية في أميركا وأصبح اقتصادها أكبر اقتصاد صناعي مغلق للتجارة من ضمن اقتصادات الدول المتقدمة. وأضاف جرار أن تراجع دور المنظمة في تسوية النزاعات بسبب غياب التوافق السياسي، وزيادة في الاتفاقيات الثنائية أو الإقليمية يُنذر بخطر تهميش المنظمة بالكامل إن لم تُحدث آلياتها وتعالج الشلل في هيئة الاستئناف لديها.ومن المرجح أن تفتح هذه الأزمة فصلاً جديداً في التجارة الرقمية يهدد عصر الإنترنت المفتوح، فإذا أصبحت الخدمات الرقمية أدوات تُستخدم في النزاعات الجيوسياسية، فقد ننتهي بعالم رقمي مجزأ، ما يسميه بعض المحللين “الإنترنت المتشظي” أو Splinternet. ويستتبع ذلك ليس فقط إعادة تشكيل لميزان التجارة بل إعادة صياغة لبنية الاقتصاد التكنولوجي العالمي برمته.