المعارضة التي تحكم: التوازن بين الوطن ومكاسب السلطة!

بعد أكثر من عشرين عامًا على الغزو الأميركي للعراق وسقوط النظام السابق، تتجدد الأسئلة حول الدور الذي لعبته المعارضة العراقية في تلك المرحلة المفصلية من تاريخ البلاد، فقد كانت تلك القوى، التي تنوعت بين شخصيات سياسية وتيارات دينية وقومية، تقدم نفسها بوصفها البديل الوطني الذي سينقذ العراق من الدكتاتورية ويقوده نحو الديمقراطية والعدالة، لكن التجربة التي تلت الاحتلال، بما حملته من فوضى أمنية، وتدهور اقتصادي، وانقسام طائفي، وسوء إدارة، جعلت كثيرين يتساءلون: هل كانت المعارضة العراقية تعمل فعلاً من أجل العراق كوطن، أم أن هدفها الحقيقي كان اقتسام غنائم الحرب وبسط النفوذ على الدولة ومقدراتها؟
خلفية ودوافع المعارضة قبل 2003
قبل عام 2003، كانت المعارضة العراقية (باستثناء الكردية التي لديها مشروع تاريخي وطويل الأمد) تتكون من أطياف متعددة، شملت الإسلاميين الشيعة والسنة، وبعض القوى اليسارية والليبرالية والقومية، وقد توحدت هذه القوى في خطابها المعارض لنظام الرئيس صدام حسين، خاصة بعد القمع الشديد الذي مارسه النظام ضد الانتفاضات الشعبية في الجنوب وفي كوردستان، إضافة إلى الحروب الكارثية والحصار الاقتصادي الذي أنهك الشعب العراقي ومكوناته، في هذا السياق، كانت بعض فصائل المعارضة ترى في التدخل الخارجي فرصة لإسقاط النظام، فيما حافظت أطراف أخرى على موقف أكثر تحفظًا تجاه التعاون مع الولايات المتحدة، ومع ذلك، فإن العامل المشترك بينها ظل يتمثل في الطموح للسلطة، وهو ما تجلى لاحقًا في تقاسم المواقع والنفوذ بعد سقوط بغداد، ما يثير التساؤلات حول مدى صدقية الدوافع الوطنية التي رُفعت آنذاك.
من المعارضة إلى السلطة – اختبار النوايا بعد الاحتلال
بعد سقوط النظام في نيسان (أبريل) 2003، انتقلت المعارضة العراقية من دورها التقليدي كقوة خارج السلطة إلى موقع الحاكم الفعلي، بدعم مباشر من قوات الاحتلال الأميركي، وسرعان ما ظهرت بوادر الانقسام والتمحور حول المصالح الحزبية والطائفية، لا سيما في عملية تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، الذي عكس توزيعًا للمواقع على أسس طائفية وإثنية أكثر مما عكس كفاءة أو رؤية وطنية، عوضًا عن بناء مؤسسات دولة مدنية موحدة، انشغلت القوى السياسية بتعزيز نفوذها في الوزارات والمؤسسات الأمنية والاقتصادية، وأدى ذلك إلى ترسيخ الفساد والمحاصصة، وهي ظواهر لا يمكن تفسيرها فقط بضعف الخبرة، بل أيضًا برغبة واضحة في تحويل الدولة إلى مساحة لتقاسم الغنائم، وهكذا بدا أن الكثير من تلك القوى كانت تعدّ العراق ساحة نفوذ أكثر منه مشروع وطن جامع.
نتائج كارثية – دولة ضعيفة ومجتمع منقسم
أدى سلوك النخبة السياسية التي تسلمت الحكم بعد 2003 إلى نتائج عميقة وخطيرة على مستوى الدولة والمجتمع، فقد تم إضعاف مؤسسات الدولة لحساب الولاءات الحزبية والطائفية، مما جعل النظام الإداري والأمني هشًا وعاجزًا عن تلبية احتياجات المواطنين أو حفظ الاستقرار، كما أسهم الفساد المستشري وغياب الكفاءة في إدارة الموارد في تدهور الخدمات الأساسية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، بالرغم من الثروات الهائلة التي يمتلكها العراق، أما على الصعيد الاجتماعي، فقد عمّقت سياسة المحاصصة والانتماءات الضيقة الانقسام الطائفي والإثني وبروز فئات وشرائح مثل شيوخ القبائل ورجال الدين وأصحاب المال كقوة مؤثرة في مراكز القرار، مما مهّد الطريق لصراعات داخلية وصعود جماعات متطرفة مثل “داعش”، وانهيار مفهوهمي المواطنة والدولة لصالح تلك القوى، وهكذا دفع المجتمع العراقي ثمنًا باهظًا لتحول النخب المعارضة إلى سلطة لم تكن على مستوى التحديات، بل بدت في كثير من الأحيان منشغلة بمصالحها أكثر من انشغالها بمصير الوطن.
وأخيرًا بين الشعار والممارسة
بعد أكثر من عقدين على الغزو الأميركي وتحول المعارضة العراقية إلى سلطة، يبدو أن التجربة السياسية التي أعقبت 2003 قد أخفقت في تحقيق تطلعات العراقيين إلى دولة عادلة ومستقرة، فبدلاً من بناء مشروع وطني جامع، هيمنت على المشهد حسابات ضيقة وصراعات على النفوذ والمكاسب، حيث كشفت الممارسة السياسية أن كثيرًا من القوى التي رفعت شعار “تحرير العراق” لم تكن تملك رؤية حقيقية لبناء دولة، بل كانت أقرب إلى تكتلات تبحث عن تموضع جديد في مشهد ما بعد الحرب، ومن هنا يُطرح السؤال مجددًا، وبمرارة هذه المرة:
هل كانت المعارضة تعمل من أجل العراق كوطن، أم من أجل اقتسام غنائم الحرب؟ الواقع يقدّم إجابة قاسية، لكنها ضرورية، لكل من يفكر بمستقبل هذا البلد الجريح.