من معسكرات النازية إلى «غيتو» غزة

من معسكرات النازية إلى «غيتو» غزة

«الغيتو» في أيام النازية، كان جزءاً من السياسة المنهجية التي اتبعها النظام النازي لعزل واضطهاد اليهود (الجماعات غير المرغوب فيها)، تمهيداً لإبادتهم في وقتٍ لاحق، وعندما نسأل أكثر عن «الغيتو» فالجواب هو:«الغيتو منطقة معزولة داخل مدينة، كانت تجبر فيها الأقلية اليهودية على العيش تحت ظروف قاسية»، تم إنشاء هذه الغيتوهات من قبل النظام النازي بعد غزو بولندا عام 1939، كمرحلة انتقالية ضمن الحل النهائي لإبادة اليهود. أما ظروف الحياة في «الغيتو» فكان يقصد فيها الاكتظاظ الشديد، حيث يحشر آلاف الأشخاص في مساحة صغيرة جداً. اعتمد النظام النازي سلاح الجوع وسوء التغذية، لإخضاع السكان وتحطيم إرادتهم وإذلالهم.
يذكر أن الأمراض انتشرت بسبب قلة النظافة، وانعدام الخدمات الطبية. استشرى الفقر المدقع بين السكان الذين فقدوا ممتلكاتهم، وكان يمنع عليهم العمل خارج «الغيتو».
كان «الغيتو» يفصل بأسوار وجدران عالية وأسلاك شائكة وتحرس مَداخله قوات نازية، وطبعاً يمنع دخول أي مساعدات، وأكثر تم تعيين (مجلس يهودي) لإدارة شؤون «الغيتو» تحت إشراف النازيين لكن من دون أية سلطة حقيقة، أشهر الغيتوهات كان غيتو وارسو الذي ضم نحو 460,000 شخص، وغيتو لودش وهو أقدم وأقسى الغيتوهات، وغيتو كراكوف الذي صور في فيلم قائمة شندلر.
ويذكر التاريخ أن ثورات قامت داخل هذه الغيتوهات، رغم الظروف القاسية حيث قامت (مقاومة مسلحة) أبرزها: انتفاضة غيتو وارسو عام 1943 التي اعتبرت واحدة من أبرز رموز المقاومة اليهودية ضد النازية. هذه الغيتوهات كانت في الواقع محطات انتقالية في طريق الإبادة الجماعية.
قد يتبادر إلى ذهن القارئ ونحن في عام 2025 أننا نتحدث عن غزة.. أو عن الضفة، لكنه التاريخ النازي الذي تعمل الآلة الإعلامية على تجاهل حقيقة أنه يعيد نفسه، وأن ضحايا الأمس هم الجلادون اليوم.. «غيتو» الأمس هو غزة اليوم.
في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر من المفترض فيه أنه عصر النهضة والقانون والإنسانية، عاد «الغيتو» في حصار غزة، وعاد الجوع ليتحول إلى سلاح فتاك، تزهق به الأرواح وتخضع به الشعوب. بطون الأطفال التي تتضور جوعاً صارت ورقة تفاوض على طاولة متخمة بالمصالح المتطرفة حد الإبادة، في زمن كشف فيه الغطاء عن كذبة منظمات حقوق الإنسان التي ترى في المرأة التي لا تقود سيارة انتهاكاً لحقوقها، ولا ترى في المرأة التي تموت مع أطفالها جوعاً انتهاكاً لإنسانيتها.
في حرب غزة الأخيرة فاق الحصار والجوع كل الحدود، حيث وصفته بعض الأوساط الثقافية الغربية والشرقية «بالإبادة الصامتة»، صار الغيتو الجديد في زمننا المتقهقر إنسانياً، سياسة معلنة لا عرضاً جانبياً. يذكر أن هذا الحصار مَدروس ومعد له منذ أعوام، وقد سبق لوزير الدفاع الإسرائيلي عام 2023 أن قال:« لن يكون هناك كهرباء ولا وقود ولا طعام ولا ماء في غزة». هي إذن سياسة حصار وتجويع ممنهجة. تم قصف المخازن وإغلاق المعابر ومنع قوافل الإغاثة من الوصول، وحتى استهداف عمال الإغاثة أنفسهم. حدث كل ذلك على الشاشات التي يشاهدها الملايين حول العالم. اعترفت الأمم المتحدة بأنها مجاعة، واعترفت أكثر بأنها ليست نتيجة طبيعة، بل من صنع الإنسان.. وبقي «الفيتو» حاضراً يمنع وقف إطلاق النار وإنهاء هذا الجنون.
اليوم في غزة يموت الناس بالطريقة نفسها، ليس لأن الطعام غير موجود، بل لأنه ممنوع من الوصول إليهم. هذا الواقع المؤلم دفع بعض المفكرين العالميين لاتخاذ مواقف واضحة وإنسانية ضد سياسة « الغيتو»في غزة:
يوفال نوح هراري، وهو مفكر إسرائيلي شهير صرح قائلاً: «حصار وتجويع المدنيين لا يمكن الدفاع عنه أخلاقياً» وأشار إلى أن هذا الأسلوب سيقوض صورة إسرائيل لعقود. أما الكاتب نعوم تشومسكي فقال: «إن إسرائيل تستخدم الحصار والتجويع كسلاح استراتيجي، وأن ما يحدث في غزة اليوم يتجاوز مجرد حرب، إنه هندسة موت جماعي. وكتب أيضاً الصحفي البريطاني الإسرائيلي جوناثان كوك: «ما تقوم به إسرائيل هو إعادة اختراع «الغيتو»، لكن هذه المرة ضد سكان غزة».
للأسف كلمات المفكرين والصحفيين لا تقرأ في ميزان المصالح الدولية وتبقى حبراً على ورق. ويبقى الحصار والتجويع.. جريمة بلا عقاب. في حين أدينت النازية على استخدام هذا السلاح لا يزال من يستخدمه اليوم يتمتع بحصانة سياسية ودبلوماسية. وكأن العالم غافل عن حقيقة أن تبرير التجويع اليوم، يفتح الباب أمام استخدامه غداً في أماكن أخرى.
إن كان العالم جاداً في حماية الإنسانية، عليه أن يقول كفى.. في عالم تنتج في الأرض من الغذاء ما يكفي لإطعام ضعف عدد سكانها يموت المئات جوعاً، ليس بسبب قحط أو فيضان. بل بسبب تعنت وفوقية فئة متطرفة تقترف الجرائم باسم السلام.
هذا هو الواقع المهين، ليس لكرامة الضحايا فقط، بل لكرامة المشاهدين العاجزين. لقد أصبح الجوع اليوم وسيلة تحكّم في يد المتطرفين. حتى المساعدات الإنسانية صارت سلاحاً سياسياً. المساعدات لم تعد رمز الرحمة، بل ورقة مساومة.
اعترف العالم أنه «غيتو» جديد وظالم.. لكن هل من محكمة ستحاسب؟