سكتنا له.. حضر مع حماره (1)

سكتنا له.. حضر مع حماره (1)

أَمَا وقد تحدثنا فأكثرنا القول في الشأن العام مصريِّه، وعربيِّه، وأمميِّه، فلست أرى من بأس أن نتناول بعض خفيف القول مما يُستملح في الأسماع، وتستجم به النفوس، وتتروح به القلوب، وليس يعدم قارئه فائدة مستفادة، أو موعظة نافعة، ويعيننا على ذلك أن لنا في فن المقالة متسع لضروب شتى من القول خفيفه وثقيله، وجده وهزله، عامِّه وخاصِّه، فليس على كاتب المقالة من حرج فيما كتب أو ترك، وليس يعيب المقالة أن تجد أو تهزل، ولا أن تخف أو تثقل.

فأما عنوان مقالاتي هذه فمثل مصري ذائع “سِكتناله.. دخل بحماره”، وإنه ليس من مصري إلا وسمع هذا المثل في موطن من المواطن دلالة على من يتغاضى الناس عنه فيتمادى ويجترئ ويتعدى، أما أنا فأزعم أني قد رأيت هذا المثل رؤية معاينة، وشهدته شهود مُلابَسة بمعناه ومبناه لا بمجازه وكنايته، فإنه كان لي صاحب حميم، لا يكاد يفارقني ولا أكاد أفارقه، وكنت أعلم من خاصة أمره مثل الذى يعلم، وكثيرًا ما كنت أغشاه في داره من الغداة أو العشى أو الليل، وكنت إذا ما أتيته من الظهيرة واستقر بنا المجلس، وائتنسنا وطاب لنا القول إذا نهيق مُنكَر يأتينا من قِبَل الشباك يقتحم علينا حديثنا، فتصطك له المسامع، وتقشعر منه الجلود، وتشمئز منه القلوب، ويسكتنا عن كل قول حتى يفرغ صاحبه من الإدلاء بدلوه، ثم نستأنف بعد ذلك ما كان من الحديث والقول (هذا إن ذكرناه أو طابت نفوسنا بِوَصله بعد الذي كان)، فإذا سألتُ صاحبي: ما هذا؟! أجاب خجلانَ: هذه نهقة الظهيرة! فأستحيى أن أسأله: وما نهقة الظهيرة؛ لما أرى من خجله، غير أنى كنت عزمت أني إذا زرته من الغد أن أُخلف ميقات هذه النهقة لأفوتها أو لتفوتني هى غير مأسوف عليها، فلما كان الغد أخرت دخولي عليه، ومَنَّيت نفسي بجلسة طيبة، ومجلس مطمئن لا يزعجنا عنه ناهق ولا صاهل ولا صائل، فإن هي إلا بُرهة وإذا صوت هدَّة عظيمة توشك أن تسقط الجدار فوق رؤوسنا، فترى أهل المجلس جميعًا وقد همُّوا بالوثوب يريدون الفرار! حتى إن الطاعم لفرط شدتها يكاد أن يغص بلقمته، وإن الشارب لفرط فزعه يكاد أن يشرق بشربته، وكان صاحبي هذا إذا ما أتته تلك الهدَّة غشيه ما يغشى القوم من فزع الفجأة، غير أنه لا يلبث أن يَطمئن في مجلسه، ويُطمئن روع جليسه قائلًا: أما هذا فميقات هدَّة القيلولة! ثم يمضى مازحًا مستأنفًا حديثه وطعامه وشرابه، فعزمت يومًا ما أن أدع الخجل والحياء، وأن أسأله عن نهقة الظهيرة التى أزعجتنا أمس، وعن هدَّة القيلولة التي روَّعتنا اليوم؟! فأجابني: هذا هو العم سُمعة..

يُتبع