الخطاب الديني وتطلعات العصر الحديث

الخطاب الديني وتطلعات العصر الحديث

أحمد محمد الشحي

تتجلى أهمية الخطاب الشرعي في كل عصر، لما له من تأثير عميق على القلوب والعقول، باعتباره صوتاً ناطقاً عن اجتهادات العلماء والمتخصصين في بيان مراد الله تعالى للناس، فهو رسالة وسطية سامية في جوهرها الرباني، منفتحة على الحياة بكل أبعادها، تخاطب الإنسان في واقعه وتطلعاته، بميزان الأصالة والمصلحة والحكمة والرحمة، تحافظ على الثوابت، وتستقي من التراث العريق، وتضيف إلى ذلك تجديد الوسائل، وتوسيع الأفق، واستيعاب العصر ومفرداته، والانخراط الإيجابي في العالم، لما لهذا الخطاب من مزايا فريدة، باعتباره نابعاً من الرسالة التي خُتمت بها النبوات، على يد نبي كريم أُرسل رحمةً للعالمين.

إن مظاهر المعاصرة المنشودة في الخطاب الشرعي تتجلى في جوانب عديدة، منها توسيع دوائر الخطاب الشرعي لتشمل بجانب مجالاتها التقليدية قضايا الإنسان كما يعيشها اليوم، مثل قضايا المواطنة الصالحة، وأمن الأوطان، ونهضة المجتمعات، ومكافحة التطرف بكافة أشكاله ومنطلقاته، والحوكمة الأخلاقية للتقنية الحديثة، والهوية الوطنية والثقافية في زمن العولمة، والأسرة وتحدياتها المتغيرة، والتساؤلات العقدية والفكرية من منطلقاتها الجديدة، والوعي البيئي وحماية الأرض، وقضايا الصحة العامة، وغير ذلك من القضايا التي أصبحت اليوم جزءاً من الواقع المعاصر.

كما تتجلى المعاصرة في المنهجية الفقهية المتوازنة التي تعتمد على الجمع بين النصوص الشرعية ومقاصدها، وربط الأحكام بعللها، وتقديم الفهم الاستيعابي للمسائل قبل إصدار الفتوى، والانفتاح على الاجتهاد الجماعي الرشيد في مواجهة النوازل الكبرى، مستنداً إلى التمكن في العلم الشرعي، والفهم الدقيق للواقع بكل أبعاده، بل ويمتد إلى استشراف ما هو آتٍ عبر تحليل الوقائع، وتوقع النتائج، والتفكر في مآلات الأمور واستباق آثارها، بما يرسخ دور الخطاب الشرعي في الوقاية قبل العلاج، وفي البيان الاستباقي قبل الاستفتاء، وفي التوجيه الحضاري المتقدم قبل أن يكون خطاباً متأخراً قائماً على ردود الأفعال.

ومن أبرز صور المعاصرة كذلك استخدام لغة عصرية جامعة قريبة من الأذهان والقلوب، يُخاطِبُ الإنسان بلغته وهمومه وتجربته وتطلعاته، لغة قائمة على تسهيل الفهم، وتيسير المفردات، وترسيخ القيم، لغة مشحونة بالرحمة، مفعمة بالتحفيز والأمل، قادرة على توليد المعنى في قلب المتلقي، سواء بحسن العبارة والسبك اللغوي الرصين، أو بقوة الرسالة وسمو المضمون والمعنى.

ومن صور المعاصرة كذلك البناء المؤسسي للخطاب الشرعي، خصوصاً في المسائل العامة، وبالأخص فيما يتعلق بالإفتاء وتناول النوازل والمستجدات المعاصرة، بحيث يتحول الخطاب في هذه المجالات من جهد فردي إلى جهد جماعي، قائم على تكامل التخصصات، واستثمار المعرفة الحديثة، وتوظيف أدوات البحث العلمي والنشر والتأثير والقياس، ومن واجب المؤسسات الدينية الرسمية في العالم الإسلامي أن تعتني بإنتاج خطاب حي متجدد، يلامس هموم المجتمعات، ويُقدم نمطاً معتدلاً متزناً من التمازج الحضاري القائم على القيم دون تصادم أو تنازل، ويُسهم في استقرار المجتمعات وتنميتها، وتشكيل الضمير الإنساني المعاصر، بما يحقق الخير والسلام للعالم أجمع.

ومن الجوانب المهمة كذلك العناية بالوسائط الحديثة، التي لم تعد اليوم مجرد خيار تواصلي يمكن الاستغناء عنه، بل أصبحت بيئة تواصلية معرفية متكاملة تفرض نفسها في كل مكان، ومن مظاهر المعاصرة الذكية في الخطاب الشرعي التعامل مع هذه الوسائط بفضاءاتها الرحبة وأدواتها الخاصة، ابتداءً من المنصات الرقمية والتطبيقات الذكية ومروراً بالذكاء الاصطناعي التوليدي وما تنتجه التقنية الحديثة في قابل الأيام، ليصل الخطاب الشرعي إلى الناس أينما كانوا بالوسيلة العصرية المثلى.

كما تبرز المعاصرة المنشودة في إعداد أجيال واعية من حملة الخطاب الشرعي، تمتلك العلم الصحيح والفكر الوسطي المعتدل واللغة القريبة السهلة والقدرة على التفاعل والتأثير والإقناع والإبداع، أجيال تهندس الخطاب الشرعي باتزان وإحكام انطلاقاً من قواعده الثابتة وأسسه الراسخة ومقاصده العليا وكلياته الجامعة، ليحقق الخير للأفراد والمجتمعات والأوطان، ويصبح فاعلاً في النهوض الإنساني، والبناء الأخلاقي والحضاري، وتعزيز الأمن والاستقرار المجتمعي.

إن الخطاب الشرعي الجامع بين الأصالة والمعاصرة لجدير بأن يصل إلى قلب كل مسلم وإنسان، لأنه يخاطب فطرته، ويحقق مصلحته، ويُقنع عقله، ويضيء طريقه، ويزيد معرفته، ويفتح له أبواب الأمل، ويجعله عنصراً إيجابياً صالحاً في مجتمعه ووطنه، وينشد له السعادة في الدنيا والآخرة.