عبقرية الخداع لا تُقاوم

عبقرية الخداع لا تُقاوم

الاحتيال المالي يعتبر من أقدم الظواهر الإنسانية، وأول عملية احتيال موثقة تاريخياً حدثت في عام ثلاثمائة قبل الميلاد، وقام فيها تاجر يوناني اسمه هيغستراتوس، بإغراق السفن التي يملكها للحصول على مبلغ التأمين، وذلك بعد بيعه سراً البضاعة الموجودة بداخلها، والعبقري إسحاق نيوتن، صاحب الجاذبية وقانون التفاضل والتكامل، خسر مبالغ كبيرة عام 1820، في أزمة احتيال مالية، عرفت باسم فقاعة بحر الجنوب، وقبلهما إبليس الذي احتال على أبوينا آدم وحواء، وأخرجهما من الجنة، رغم التحذيرات الإلهية، ما يعني أن قابلية الاستسلام للاحتيال، متجذرة في الجينات الإنسانية، وفي ديسمبر 2023، نشرت شركة ويكتيليد للبحوث، في دراسة شملت كل دول وسط وشرق أوروبا، ومنطقتي الشرق الأوسط وأفريقيا، أن ما نسبته 54 % من السعوديين، وقعوا ضحية لعملية احتيال واحدة على الأقل، والسابق يفوق المعدل العالمي ونسبته 52 %، والأعجب هو أن 13 % من هؤلاء، كانوا عرضة للاحتيال لأكثر من مرة.

زيادة على ما سبق، وجدت دراسة متزامنة أجرتها شركة فيزا، أن الثقة المفرطة للمستهلكين في المملكة، تؤدي بهم لأن يكونوا ضحايا لعمليات الاحتيال بدرجة أعلى، وهو ما جعل تسعة من أصل كل عشرة سعوديين مستهدفين به، أو بما نسبته 91 %، واللافت أنهم لا يهتمون بالتحذيرات الرسمية التي تصلهم عن الاحتيال أو يتجاهلونها، واستناداً لما نشرته صحيفة “الرياض”، فقد خسرت النساء السعوديات في 2022، قرابة المليار ريال، أو ما يعادل 375 مليون دولار، نتيجة لتعرضهن للاحتيال والنصب الإلكتروني، والسبب في الأساس يرجع للإهمال وعدم الاهتمام، ومن ثم ينقلن معاناتهن للسوشال ميديا، والبرامج الحوارية في التلفزيون، ويحملن المجتمع ومؤسساته مسؤولية أخطائهن الفادحة.

استناداً لتقديرات تقرير التحالف العالمي لمكافحة الاحتيال، فقد وصلت خسائر الاحتيال في 2024، لقرابة تريليون و300 مليون دولار، وإذا أضفنا للسابق ما يتكبده الاقتصاد العالمي سنوياً، بفعل جرائم الاختلاس والفساد، سترتفع الخسارة إلى خمسة تريليونات و127 مليار دولار، والمعنى أن كل مئة دولار تصرف في العالم، حصة العمليات الاحتيالية فيها 7 دولارات، ورغم ما قيل فالمختصون يعتقدون بأن الأرقام الفعلية أكبر، لأن الناس لا يصرحون باستمرار أنهم كانوا ضحايا لجرائم نصب واحتيال، تجنباً لوصفهم بالغباء والسذاجة، بخلاف أنه حتى عند الإبلاغ، فإن احتمالية استعادة أموال الاحتيال، في رأي المختصين، لا تتجاوز 4 %، في أحسن الأحوال، والدليل الأميركي بيرني مادوف، الذي نفذ أكبر عملية احتيال في تاريخ أميركا، فضحاياه لم يتكلموا إلا بعد كشف جرائمه، ووصول قيمة احتيالاته إلى 65 مليار دولار.

في دراسة نشرت عام 2012، لوحظ أن الفئة العمرية الأكثر تعرضاً للاحتيال، تتراوح أعمارها ما بين 30 و44 عاماً، وأن لكل فئة عمرية مدخلاً احتيالياً، فالشباب من الجنسين، يتم الاحتيال عليهم بالوظائف والعلاقات الوهمية أو فرص الاستثمار، وكبار السن يمكن التلاعب بهم، من خلال الأدوية السحرية التي تعيد إليهم شبابهم، والرجال تستميلهم المشروعات الجديدة، بينما النساء ينجذبن للمسابقات والجوائز الزائفة، والأهم أن معظم ضحايا الاحتيال، مستوى ذكائهم مرتفع، ودخولهم فوق المتوسط، وليسوا فقراء، أو محدودي التعليم.

من الأمثلة على ما قيل، احتيال ثيرموس، وهو اسم الشركة التي قامت بتأسيسها الأميركية إليزابيت هولمز، صاحبة الـ19 ربيعاً، وكان هذا في 2004، على خلفية ترويجها لاختراع غير حقيقي، وهو عبارة عن جهاز يستطع التنبؤ بالأمراض قبل حدوثها، ويساعد في القضاء عليها، بمجرد أخذ نقطة دم واحدة من طرف الإصبع، وكل هذا بسعر رخص وفي زمن قياسي، واستطاعت من خلاله، إقناع رؤساء أميركيين بدعمها، أمثال بيل كلينتون وجو بايدن، ومعهما وزير الخارجية الأسبق هنري كسينجر، الموصوف بثعلب السياسية الأميركية، وعملاق الإعلام روبرت ماردوك، وعائلة والتون الأغنى في العالم، والمالكة لمتاجر وولمارت، وقيمة شركتها بلغت تسعة مليارات دولار في 2014، ولكنها خسرت كل شيء في نهاية الأمر، وحكم عليها بالسجن لأكثر من 11 عاماً في 2022، بتهمة النصب والاحتيال.

من أفلام الاحتيال المعروفة، الفيلم الهوليودي: ذئب وول ستريت، الذي عرض في 2013، وهو يتناول حكاية شخص اسمه جوردان بيلفورت، أشهر محتال في ذاكرة البورصة الأميركية، فقد كان صاحب شخصية كاريزماتية، ولديه ثقة عجيبة، تشعر ضحاياه بالارتياح وأنه قريب لأنفسهم، وقد مثل دوره النجم المعروف ليوناردو دي كابريو، ومع الكاريزما، يشترك غالبية المحتالين، في أنهم ميكافليون، لديهم استعداد كامل لعمل ما يوصلهم لما يريدون، وسيكوباتيون لا يتعاطفون مع أحد، إلا أنهم يجيدون تمثيل ذلك، ويقنعون ضحاياهم به، ومعه مؤلف عن الاحتيال عنوانه: الكذب من أجل المال، صدر في 2018، لمسؤول سابق في بنك إنجلترا اسمه دان ديفيز، وهو يستحق القراءة، وفيه حكايات مأخوذة من الواقع، والاحتيال لا يمكن إيقافه تماماً، وأفضل الحلول أن يكون الشخص حذراً في تعاملاته كلها، وبما يخفف أضراره عند حدوثه.