“مرض الاجتماعات”: كيف تتحول اجتماعات العمل إلى أمر مرهق

تستيقظ “أميرة” مبكراً على صوت جرس التنبيه في ساعتها. سرعان ما يعبس وجهها عندما تتذكر أن اليوم هو الاثنين، بداية أسبوع من اجتماعات كثيرة متتالية. “ليته كان يوما آخر”، هكذا تحدث نفسها بينما تنهض من فراشها لتتأهب للذهاب إلى المؤسسة البحثية التي تعمل بها.
يزداد شعور أميرة بالإحباط عندما تنظر إلى جدول اجتماعات اليوم على هاتفها المحمول وهي في سيارة الأجرة، وتتساءل في صمت عما إذا كانت ستضطر إلى البقاء بعد دوامها لتعويض الوقت الذي تستهلكه اجتماعات “لا نهائية”، على حد قولها.
تخبرني أميرة بأنها لا تعترض على الاجتماعات في حد ذاتها، فهي “وسيلة للتنسيق وتوزيع المهام ومتابعة العمل ومناقشة تحديات التنفيذ”. لكنها تضيف أن المشكلة أنه كثيرا ما “ينجرف الاجتماع إلى نقاش وجدل عقيم يدور حول مزايدة البعض على زملائهم، أو التعبير عن خلافات شخصية .. ويزيد الطين بلة عندما ينحاز المدير إلى طرف آخر نتيجة السلوكيات الإدارية المعروفة مثل الوشاية والوقيعة”.
أما “أحمد” الذي يقود فريقا في مؤسسة إعلامية فيقضي ما بين 5 إلى 6 ساعات أسبوعيا في الاجتماعات، ويشعر بأن 25% منها فقط يمكن اعتباره مجديا.
يقول أحمد إنه يشعر خلال هذه الاجتماعات وبعدها بأنه “مشتت الانتباه”، وبأنه يتعرض “لضغوط إضافية للالتزام بالمواعيد المحددة لإنجاز المهام المسندة إلي نظرا لضيق الوقت وسط تسارع الأحداث والتطورات العالمية. أكثر ما يصيبني بالضيق والإحباط هو استغلال بعضهم هذه الاجتماعات لكي يثبت كفاءته بدلا من الإدلاء باقتراحات أو آراء مفيدة بخصوص سير العمل “.
ويضيف: “أسوأ ما في الأمر الاجتماعات التي أشعر، في كثير من الأحيان، بأنه لا علاقة لي بها إطلاقا، ومع ذلك يصرون على مشاركتي فيها. أسجل حضوري من خلال المشاركة عن بعد، وأقضي غالبية الوقت في مواصلة عملي ولا أنتبه لما يقال”.
أميرة وأحمد ليسا وحيدين في معاناتهما مما يطلق عليه باللغة الفرنسية “réunionite ” أو “meetingitis” باللغة الإنجليزية: “داء الاجتماعات”، وهو مصطلح يصف ميل بعض أماكن العمل إلى الإفراط في عقد الاجتماعات غير الضرورية أو غير المثمرة، وهو ما قد تكون له آثار سلبية على الإنتاجية والموظفين.
عادات تنظيمية سيئة
من الممكن أن تكون الاجتماعات وسيلة فعالة للغاية للتعاون في إنجاز العمل والتواصل بين زملاء العمل ورؤسائهم وتحديد أهداف معينة وأطر زمنية لتحقيقها، لكن “الاجتماعات المفرطة أو غير المثمرة غالباً ما تنبع من عدد من العادات التنظيمية التي تعكس مشكلات ثقافية وهيكلية أعمق”، على حد قول الدكتورة أماندا جونز المحاضرة المختصة في دراسات السلوك التنظيمي وإدارة الموارد البشرية في كلية كينغز لإدارة الأعمال بجامعة كينغز كوليدج لندن.
تشير جونز في حديث مع بي بي سي عربي إلى أن تلك العادات تشمل ميل بعض الأشخاص، ولا سيما من يشغلون مناصب إدارية، إلى عقد اجتماعات “للتخفيف من قلقهم بشأن عدم إحراز تقدم كاف أو من فقدان السيطرة”. كما أن مواصلة عقد الاجتماعات بدون تقييم لفوائدها يحدث “بدافع العادة وليس الحاجة، من دون التساؤل عما إذا كان شكل مختلف من أشكال التواصل – مثل رسالة إلكترونية مختصرة أو مستند مشترك أو تعاون غير متزامن – قد يكون أكثر ملائمة. هذا الميل التلقائي إلى الاجتماعات قد يستهلك الوقت والطاقة ويوهم بإحراز تقدم من دون تحقيق نتائج ملموسة”.
ويبدو أن المديرين حديثي التعيين يميلون إلى عقد المزيد من الاجتماعات، ولا سيما في بيئات العمل الهجين أو العمل عن بعد.
يقول البروفيسور بنجامين ليكر مدير قسم أبحاث الدراسات العليا بكلية هنلي لإدارة الأعمال بجامعة ريدينغ البريطانية لـ بي بي سي عربي إن “البحث الذي أجريناه وشمل 76 شركة متعددة الجنسيات أظهر أن المديرين الذين تمت ترقيتهم حديثا يعقدون اجتماعات أكثر بنسبة 29 في المئة مقارنة بالقادة المخضرمين، عادة في محاولة لتعزيز الشعور بالتواصل وإظهار السيطرة”.
وقد أظهرت أبحاث عديدة أن وباء كوفيد-19 وما ارتبط به من إغلاقات جعلت العمل عن بعد الخيار الوحيد لكثير من الموظفين، أسهم في زيادة الاجتماعات المفرطة.
يقول البروفيسور ليكر إنه “رغم انخفاض متوسط طول الاجتماع الواحد خلال الوباء بنسبة 20%، ارتفع عدد الاجتماعات التي يحضرها الموظفون بنسبة 13.5%، حيث استعاض الناس عن التفاعلات التي كانت تجري في المكتب بمكالمات مجدولة. كما انخفضت نسبة التواصل غير المتزامن، وهو ما أدى إلى نشوء ثقافة أصبحت فيها الاجتماعات المتتالية أمرا معتادا”.
إغلاقات وباء كوفيد-19 انتهت، لكنها تركت في بعض أماكن العمل إرثا من الاجتماعات المفرطة والتوقعات بأن يكون الموظف متاحا طوال الوقت لحضورها.
تقول الدكتورة جونز: “في السابق، إذا كان لديك اجتماعان في موقعين مختلفين في نفس الوقت، كنت ببساطة ترفض أحدهما. أما الآن فالناس يشعرون بأنهم يجب أن يحضروا كل الاجتماعات، أو أن زملاءهم ينبغي أن يفعلوا ذلك”.
وتضيف أن عودة الموظفين إلى أماكن العمل لم تنه هذا الموقف، والنتيجة هي “أننا الآن نتعامل مع الاجتماعات المفرطة إلى جانب التفاعلات التي تتم وجها لوجه ووسائل الذهاب إلى المكاتب، وهو ما يؤدي حتما إلى زيادة الأعباء وربما إلى الاحتراق الوظيفي”.

ضرر بالإنتاجية وبرفاهة الموظفين
أظهر مسح أجرته شركة التكنولوجيا العملاقة مايكروسوفت في 2023 وشمل 31000 شخص من 31 دولة أن الاجتماعات غير الفعالة هي العقبة “رقم 1” للإنتاجية، في حين جاءت الاجتماعات المفرطة في المرتبة الثالثة.
ويقول البروفيسور ليكر إن أبحاثه تظهر أنه “عندما يتم تقليص الاجتماعات بنسبة 40% (وهو عادة ما يعادل يومين خاليين من الاجتماعات أسبوعيا)، تزداد إنتاجية الموظفين بنسبة 71 في المئة ويتحسن رضاهم الوظيفي بنسبة 52 في المئة. الاجتماعات المفرطة تشتت الانتباه وتعطل العمل الذي يحتاج إلى تركيز كبير”.
وفضلا عن تأثيرها السلبي على إنتاجية العمل، فإن الاجتماعات المفرطة غير المثمرة تؤدي أحيانا إلى فقدان الثقة بالنفس والخوف من تحمل المسؤولية واتخاذ القرارات الصعبة.
تقول الدكتورة جونز إنه “عندما تتكرر الاجتماعات كثيرا وتكون سيئة التنظيم، فإنها عادة ما تتحول من وسيلة لدفع العمل إلى الأمام إلى وسيلة لتأجيله .. في بعض الحالات، تستخدم الاجتماعات لتعطي انطباعا زائفا بإحراز التقدم، بينما ما يتم فعليا هو تفادي الاختيارات الصعبة. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تكريس ثقافة تجنب المخاطر، إذ تتوزع المسؤولية ولا يشعر أحد بالالتزام بأخذ زمام المبادرة. وفي النهاية، بدلا من أن توضح المسؤولية والمساعدة على تحقيق نتائج، من الممكن أن تؤدي الاجتماعات المفرطة إلى تقويض جودة القرار وكفاءة المؤسسة”.
من الأعراض الأخرى لـ”داء الاجتماعات” التوتر والإرهاق النفسي والجسدي، أو ما يسميه علماء النفس “إجهاد الزوم Zoom Fatigue”. يقول البروفيسور ليكر إنه لاحظ من خلال الأبحاث التي أجراها في هذا المجال “انخفاضا قدره 57% في مستويات التوتر المبلغ عنها عندما تُقَلل الاجتماعات، وهو ما يشير إلى فوائد حقيقية للصحة العقلية والنفسية، بل والبدنية”.
يلجأ بعض الموظفين، مثل أحمد، إلى ما يمكن أن نصفه بالحضور السلبي الذي يفتقر إلى المشاركة الفعالة لأنهم يشعرون بأن آراءهم غير مهمة أو بأن الاجتماع غير مفيد من الأصل، وكان من الأحرى تكريس الوقت الذي يستهلكه الاجتماع للعمل.
لكن الدكتورة جونز تنبه إلى أن ذلك من الممكن أن يعزز لدى الموظفين الشعور بالسخرية والانفصال عن العمل. كما قد تكون له آثار على انطباعات الزملاء، وهو ما يؤدي إلى تداعيات سلبية على سمعة الموظف أو حياته المهنية.
ما الحل؟
يتضح مما سبق أن تقليل عدد الاجتماعات ومددها قد يكون بداية جيدة لمعالجة “داء الاجتماعات”. ولكن هل هناك طول يُعد مثالياً للاجتماع الواحد، أو عدد مثالي للاجتماعات الأسبوعية مثلا؟
“بكل تأكيد”، هكذا أجاب البروفيسور ليكر عن سؤالي السابق، موضحا أن بيانات أبحاثه “توضح أن ثلاثة أيام خالية من الاجتماعات أسبوعيا تحقق التوازن المثالي. يعادل ذلك تخفيضا قدره 60% في الاجتماعات ويؤدي إلى أعلى زيادة ممكنة في الإنتاجية والتعاون والرفاهة، من دون أن يفضي إلى عزل فرق العمل أو تقويض جودة التواصل”.
الأمر الثاني هو التأكد من أن الاجتماع يُعقَد لضرورة لا لمجرد العادة، والتأكد من أنه يحقق أهدافه. ولكي يتأتى ذلك، ينبغي أن يكون لكل اجتماع جدول أعمال ونتيجة متوقعة ومبرر لحضور كل مشارك.
ولكي تضمن الشركات والمؤسسات أن تكون اجتماعاتها ضرورية ومثمرة، ينبغي “أن تبدأ بتطبيق معيارين: الغاية والمشاركة”، كما يقول البروفيسور ليكر، الذي يضيف: “. نتائج أبحاثنا تظهر أنه عندما تُمنَح فرق العمل صلاحية إلغاء الاجتماعات التي لا تستوفي هذه المعايير، فإن ذلك لا يؤدي فقط إلى تخفيف ازدحام جداول المواعيد، بل أيضا إلى شعور الموظفين بثقة أكبر وانخراط أكثر في العمل”.
تقول الدكتورة جونز إن ثقافة العمل التي “تعطي أولوية للأغراض الواضحة وتراجع بشكل دوري هياكل الاجتماعات وتمكن الأفراد من التساؤل عما إذا كان الاجتماع هو حقا أفضل وسيلة لاستخدام الوقت هي ثقافة يُرَجح أن تعزز التعاون المثمر والمركز”.
وتضيف أن “بعض المؤسسات، بما فيها المؤسسة التي أعمل بها، أطلقت مبادرة “الأسابيع الهادئة” التي تحث على عدم عقد اجتماعات خلالها. مثل هذه المبادرات من الممكن أن تكون فعالة للغاية، غير أن نجاح هذه المبادرات مرهون بالتزام الجميع بها. فإذا ضرب بعض المديرين بهذه المبادرات عرض الحائط، قد يؤدي ذلك إلى المزيد من الإحباط لدى الموظفين”.
في الختام، مشكلة الاجتماعات المفرطة أو “داء الاجتماعات” لا تتمثل في الاجتماعات في حد ذاتها، وإنما في العادات المؤسسية التي تحتاج إلى تغيير. وعندما يكون هناك تخطيط جيد للاجتماعات ويوضع جدول أعمال واضح لها وتعقد فقط عندما تقتضي الحاجة إليها ويعطى الموظفون حرية الاقتراح أو الرفض، من الممكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة الإنتاجية وشعور الموظفين بأن وقتهم محترم وأنهم منخرطون في عمل حقيقي.
*”أميرة” و”أحمد” اسمان مستعاران، إذ طلب المشاركان إخفاء اسميهما الحقيقيين.