إسرائيل تواجه خطر وجودي من إيران

تتزايد المخاوف الإسرائيلية يوماً بعد يوم من التهديد الإيراني، خاصة في ظل التطورات الأخيرة التي أكدت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية امتلاك إيران لمخزون من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% يكفي لصنع ما بين تسع إلى عشر قنابل نووية. هذا التحول النوعي لم يعد مجرد سيناريو افتراضي أو تهديد محتمل، بل أصبح واقعاً ملموساً يفرض نفسه على طاولة صانع القرار في تل أبيب وواشنطن والعواصم الغربية.
ولتقدير حجم هذا التهديد، لا بد من العودة إلى جذور البرنامج النووي الإيراني، الذي بدأ في خمسينيات القرن الماضي بدعم أمريكي في عهد الشاه، ثم شهد تسارعاً كبيراً بعد الثورة الإسلامية، ومر بمحطات تفاوضية عديدة أبرزها اتفاق باريس 2004، واتفاق لوزان 2015، والاتفاق النووي الشامل مع مجموعة (5+1) الذي حد من البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات. غير أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018 أعاد التصعيد إلى الواجهة، وسمح لطهران بتسريع أنشطتها النووية بشكل غير مسبوق.
لا يمكن فهم حجم التهديد الإيراني لإسرائيل دون التطرق إلى البعد الوجودي الذي بات يطغى على الخطاب السياسي والأمني في تل أبيب. فإيران اليوم لا تكتفي بتطوير برنامج نووي وصاروخي متقدم، بل تسعى أيضًا إلى إعادة ترميم نفوذها الإقليمي واستعادة أدواتها التي فقدتها أو تراجعت فعاليتها في السنوات الأخيرة نتيجة الضغوط الدولية والإقليمية. منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، استفادت طهران من الفوضى الإقليمية لتوسيع نفوذها عبر وكلاء محليين في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ونجحت في بناء شبكة معقدة من الميليشيات المسلحة التي باتت تشكل تهديدًا مباشرًا لإسرائيل، ليس فقط من الحدود اللبنانية عبر حزب الله، بل أيضًا من غزة عبر دعم حماس، ومن اليمن عبر الحوثيين الذين استهدفوا الشحن التجاري في البحر الأحمر.
هذا التمدد لم يكن فقط لتعزيز أوراق الضغط في مواجهة الغرب، بل أصبح جزءًا من استراتيجية الردع الإيرانية الشاملة ضد أي محاولة إسرائيلية أو أميركية لاستهداف منشآتها النووية أو مصالحها الحيوية. ومع تصاعد الضربات الإسرائيلية ضد البنية التحتية لحزب الله في لبنان، وتراجع قدرة بعض الفصائل على العمل بحرية في سوريا، تجد إيران نفسها أمام تحدٍّ لاستعادة زمام المبادرة الإقليمية. ولهذا تسعى طهران بقوة إلى إعادة بناء قدراتها الصاروخية وتطوير منظوماتها الدفاعية والهجومية، ليس فقط لحماية برنامجها النووي، بل أيضًا لفرض معادلة ردع جديدة تمنع إسرائيل من العمل بحرية في الإقليم.
في المقابل، ترى إسرائيل أن هذا التمدد الإيراني يشكل تهديدًا وجوديًا لا يمكن التساهل معه، خاصة في ظل تزايد المؤشرات على أن طهران باتت قريبة من امتلاك القدرة النووية العسكرية. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وصف البرنامج النووي الإيراني مرارًا بأنه “تهديد وجودي” لإسرائيل، مؤكدًا أن الحرب الأساسية لتل أبيب هي ضد إيران، ليس فقط بسبب برنامجها النووي، بل بسبب أذرعها المنتشرة في المنطقة وصواريخها الدقيقة التي تهدد المدن الإسرائيلية والبنية التحتية الحيوية. ويزداد القلق الإسرائيلي مع كل خطوة تتخذها طهران لتعزيز نفوذها الإقليمي أو استعادة أدواتها، إذ ترى تل أبيب أن أي تراجع في قدرة إيران على تحريك وكلائها هو مكسب أمني مؤقت، ما لم يتم كبح البرنامج النووي بشكل كامل ودائم.
هذا التداخل بين الطموح النووي الإيراني ورغبتها في استعادة السيطرة الإقليمية عبر أدواتها ووكلائها يرفع منسوب المخاطر بشكل غير مسبوق، ويدفع إسرائيل إلى اعتبار أن أي تأخير في التحرك سيمنح طهران الوقت الكافي لإعادة بناء قدراتها ومفاجأة المنطقة والعالم بتحول استراتيجي يصعب احتواؤه لاحقًا. في ظل هذا التصعيد، يصبح التهديد الإيراني لإسرائيل تهديدًا وجوديًا حقيقيًا، ليس فقط بسبب احتمال امتلاك السلاح النووي، بل أيضًا بسبب قدرة طهران على إشعال عدة جبهات في وقت واحد، وتهديد المصالح الحيوية لإسرائيل وحلفائها في المنطقة.
في هذا السياق، برزت أخبار الشحنات الصينية إلى إيران كعامل تصعيدي جديد، إذ كشفت تقارير استخباراتية وإعلامية عن رسو سفينتين إيرانيتين في ميناء تايكانغ الصيني وتحميلهما بأكثر من ألف طن من مادة بيركلورات الصوديوم، وهي مادة كيميائية حساسة تُستخدم في إنتاج بيركلورات الأمونيوم، المكون الأساسي للوقود الصلب في الصواريخ الباليستية. هذه الكمية تكفي لإنتاج وقود لأكثر من 260 صاروخاً باليستياً متوسط المدى، ما يعني أن إيران قادرة على تعويض أي خسائر لحقت بمنشآتها الصاروخية جراء الضربات الإسرائيلية، بل وربما توسيع ترسانتها بسرعة قياسية. الدعم الصيني لا يقتصر على توريد المواد الكيميائية فحسب، بل يشمل أيضاً معدات ذات استخدام مزدوج، وخبرات تقنية، وغطاء دبلوماسي في المحافل الدولية، وهو ما يعزز قدرة إيران على تجاوز العقوبات الغربية وإعادة بناء قدراتها العسكرية بسرعة.
أمام هذا الواقع، تجد إسرائيل نفسها أمام معضلة وجودية حقيقية: فالمسار الدبلوماسي أثبت محدوديته، سواء عبر مفاوضات روما الأخيرة أو عبر الضغوط الأوروبية، إذ ترفض طهران أي قيود دائمة على التخصيب أو تطوير الصواريخ، وتصر على المضي قدماً في برنامجها النووي تحت غطاء الاستخدامات السلمية. كما أن الضربات الجوية، رغم فعاليتها التكتيكية في تأخير البرنامج النووي أو الصاروخي، تبقى محدودة الأثر في ظل لجوء إيران إلى بناء منشآت محصنة تحت الأرض بعمق كبير، وتوزيع أنشطتها على عشرات المواقع السرية، فضلاً عن استمرار شبكات التوريد الصينية والروسية في دعمها بالمواد والمعدات اللازمة.
الجدل هنا لا يدور فقط حول جدوى الضربات الإسرائيلية، بل حول ما إذا كانت كافية لتأخير المشروع النووي الإيراني أو حتى تعطيله بشكل دائم. فهناك من يرى أن الضربات قد تمنح إسرائيل والغرب هامشاً زمنياً محدوداً، لكنها لن تقضي على البنية التحتية أو المعرفة التقنية التي اكتسبتها إيران خلال العقود الماضية. كما أن المخزون الحالي من اليورانيوم المخصب يسمح لطهران بصنع قنبلة نووية أولية خلال فترة تتراوح بين ستة إلى ثمانية عشر شهراً، حتى لو تعرضت منشآت التخصيب للتدمير. هذا ما يجعل كثيراً من الخبراء يطالبون بتدخل أمريكي مباشر، نظراً لامتلاك واشنطن أسلحة متخصصة في تدمير المنشآت العميقة مثل القنابل الحرارية الخارقة للتحصينات، وهو ما لا يتوفر لإسرائيل وحدها.
خلاصة المشهد أن إسرائيل تجد نفسها أمام تهديد وجودي واضح لا يقبل التأويل، مدعوم بمعلومات مؤكدة عن تقدم البرنامج النووي الإيراني وتطور الترسانة الصاروخية بدعم صيني مباشر. في ظل هذا التصعيد، تبدو الضربة العسكرية خياراً اضطرارياً وليس ترفاً استراتيجياً، لكنها وحدها قد لا تكون كافية لوقف المشروع الإيراني ما لم تترافق مع تدخل أمريكي واسع النطاق وضغوط دولية غير مسبوقة. ويبقى السؤال الكبير: هل يملك المجتمع الدولي الإرادة السياسية لتحمل تبعات المواجهة، أم أن التردد الغربي سيترك إسرائيل والمنطقة على شفا عاصفة نووية تهدد الجميع؟