“شكري علمّني كيفية العيش من كتابتي” .. كرماح يتحدث باسم المصباحي

“شكري علمّني كيفية العيش من كتابتي” .. كرماح يتحدث باسم المصباحي

“هذه الرواية متعددة الأصوات أنهيتها في ظرف ثلاثة أشهر فقط رغم المعاناة مع المرض، وقد أردتها أن تكون جديدة في لغتها، لغة برقية وسينمائية بحسب الكاتب المغربي محمد شكري، كما اخترت التَّكثيف تجنّباً للإسهاب الممل والثقيل”… هكذا تحدث حسونة المصباحي، الروائي التونسي المحبّ للمغرب عن روايته الأخيرة “يوم موت سالمة” التي تنشرها له دار أكورا بطنجة.

وقال المصباحي في ما يورده الناشر يوسف كرماح في تقديم الرواية: “هناك الكاتب الذي يعود من الغربة إلى قريته بحثاً عن حياة جديدة، وهناك القرية بتاريخها القديم والجديد، والعنصر الأساسي هو الطرق والأساليب التي واجه بها ريف الوسط التونسي أحداثا جسيمة مثل الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ومعركة التحرير الوطني، وأحداث ما بعد الاستقلال”.

وتابع الروائي التونسي البارز الذي فارق الحياة يوم 4 يونيو الماضي: “وفي اليوم نفسه الذي تستعرض فيه مثل هذه الأحداث يرسم الكاتب صورة مروعة عن العالم الجديد الموسوم بالعنف والجريمة، وعن مجتمع ممزق يعاني من أمراض خطيرة ومدمرة”.

حكايات كثيرة

يحكي يوسف في التقديم: “آخر رسالة صوتية توصلتُ بها من الكاتبِ جاءني صوته فيها واهنا: ‘يا يوسف.. هل وصلتك الرواية؟ أنا أسأل فيك عن الرواية.. صحتي لاباس وبارك الله فيك.. طمّني على وصول الرواية إليك.. أنا في انتظار جواب سريع الله يخليك..’”، وتابع: “كنتُ قد سألته مُسبقاً عن صحته، لما كنتُ بمعرض الدوحة وما يواكب المعارض من انشغالات وتعب، فبعثَ إليَّ رسالة صوتية يسأل عن أحوال الرواية؛ حتى وهو في أصعب حالاته المرضية كان يُوصي بالرواية وكان يودها أن تصدر في أقرب الآجال”.

وزاد ناشر دار أكورا المغربية: “كُنا في الحقيقة نَنْوي إصدارها بمعية كتب أخرى له، في الصيف القادم، لتصادِفَ زيارته إلى موسم أصيلا”، وأضاف: “قد عوّدنا أن يفرح بما نُصدره له مثل طفل صغير، فيثني على العمل وعلى أناقة الطبعة، لأصدقائه ولقُرَّائه.. وحال العودة من المعرض والشُّروع في قراءة الرواية بعثتُ برسالة إلى الكاتب أخبره فيها بأنَّنا شرعنا في العمل عليها. كتبت له: ‘تحية طيبة العزيز حسونة.. أتمنى أن تكون بألف خير وتتمتع بصحة جيدة، وأنك تعافيت.. أنا بصدد قراءة الرواية ‘يوم موت سالمة’، وبصدق إنني أستمتع بكل كلمة، جملة، وفقرة…”.

ومضى الكاتب المغربي: “ما يزيد على سنة وأنا أسأله عن الصحة، ولكنه دوما يجيب: ‘صحتي لاباس.. لاباس.. الله يخليك..’. ويغيّر الموضوع بسرعة وكأنَّه لا يريد من يُذكّره بآلام المرض أو أنه كان يتعمَّد أن يتظاهر بأنَّه بصحة جيدة حتى لا يتأثر أحد”، وواصل: “كنتُ أصدِّق الأمر دوماً، إلى أن فوجئت بابنة أخته مريم تنشر تدوينة النَّعي. لم أصدق الأمر طوال اللّيلة، خاصة أنني طيلة سبعة أيام أشتغل على روايته وأقرأها باستماتة وأعيش تفاصيل أحداثها”.

وقال كرماح: “دأبَ حسونة خلال كل معرض أزوره أن يسأل عن أحوال كتبه، فكنتُ أحبّ ممازحته، فأقول له باللهجة التونسية: ‘مفمّاش عباد يا حسونة.. مفمّااااش..’. ثم سرعان ما أجيبه بأن الدار فخورة بكونها تنشر لكاتب مهم مثله، وكم كان يروقه أنَّ كتبه تلقى إقبالاً لدى قُرَّاء المعارض عبر مختلف رُبوع الوطن العربي. ولم أكن أجامله، بل كانت حقيقة، وقد كنتُ حريصاً في كل معرض على وضع كتبه في الواجهة، لأنه كاتب له رمزيته وأصالته وإن لم يكن محظوظا مع قُراء الرعيل الجديد”.

وأردف الكاتب ذاته: “جيل الثمانينيات والتسعينيات إلى حدود مطلع الألفية الثالثة يواكب جديده، منذ كان ينشر في المجلات والجرائد العربية الرائدة. وكما أكد الشاعر والمترجم التونسي أدم فتحي مرَّات: ‘يكفي أن تقرأ لحسونة المصباحي كتاباً واحداً لتصبح من قُرَّائه الأوفياء..’؛ فيأخذك في عوالم تجربته الإبداعية المتفردة بطابعها الذي لا تستطيع تبيان حدود خياله من واقعه، إن لم تكن تعرف الكاتب جيداً”.

شغف متواصل

كتب صاحب “وحي آلة كاتبة” أن “حسونة المصباحي ينتابه شعورٌ طفولي في كل مرّة يصدر أحد أعماله، فتجده قبل ذلك دائم السؤال والاستفسار عن موعد النشر وإذا ما كان العمل قد نال الإعجاب، ولا يكتفي بكلمات المجاملة، بل يود معرفة الكثير من التفاصيل حول المنجز وكأنَّه مازال يصقل تجربته، هو الخبير بعالم الرواية وقد قرأ آلاف الروايات وتشبع بها”، وقال شارحًا: “أقرأ أعماله وفي الوقت نفسه أبحث عن النصوص التي أحال عليها، وقاربها، وأحسن توظيفها بحرفية. إذ تشعر بأن حسونة كان يكتب وفي لحظة استراحة تذكّر مُؤَلَّفاً أثر فيه أو مقالة نشرها في إحدى الصحف، فينسجها في النص، بصيغة رائقة تجعلك تتشبع به وتنغمس في عوالمه الموازية”، وتابع: “هذا هو التَّمرد الذي تحدثنا عنه كثيراً فأقنعني بأنَّه لا يُؤمن بقيُود في الكتابة، وبأنه تعلم من الكُتّاب الكبار خبرة الكتابة كما يريد وكما يحس”.

وزاد كرماح: “في لقاء أخير بطنجة أواخر أكتوبر 2024 قضينا يومين معاً رفقة الكاتب العراقي صموئيل شمعون والصحفي السعودي حسين الحربي، بين طنجة وأصيلة، وقد كان الكاتب مدعوًّا لموسم أصيلة الذي سيغيب عنه هذه المرة، وهو الذي دأبَ على زيارته كل سنة، منذ كان في ميونيخ، مفضلاً أن تكون أصيلة فسحته الصيفية”، وزاد: “كانت سعادته فائقة، كطفل يمرح ويمزح، وكلما ذكَّره صموئيل بنادرة أو حادثة يحكي لنا عنها بكثير من التفصيل والدِّقة، إذ إنه يملك ذاكرة قوية تُخوَّل له استرجاع أحداث وتفاصيل بدقة متناهية”.

وسرد الكاتب أنه “في جلسة رائعة بمطعم إلدورادو الذي أحبّه حسونة ولطالما جالس فيه شكري، وكانت مناسبة لتجود ذاكرته بلقاءاته بصديقه ‘الشحرور الأبيض’ الذي يقدِّره كثيراً، وتكاد لا تخلو كتاباته من ذكره والإشادة بمنجزه…في الزاوية ‘الشكرية’ التي كانت تُحجَز لمحمد شكري بالمطعم، سيخبرنا حسونة بأنه تعلم من شكري في هذا الفضاء كيف يعيش مما يكتب، وبأنه يقضي يومه بين القراءة والكتابة”، واسترسل موضحا: “يكتب باستمرار، لا يكاد يمر يوم دون أن يسجل خاطرة أو يدوِّن أفكارا، وقد كانت اليوميات رهانه وشغله الشاغل، حالما يلوذ بسكينته في متم اليوم يسجل رزنامة يومه، لتظل هذه اليوميات خزَّاناً للذاكرة ووثيقة مهمّة”، وواصل: “كان ذلك عقب سؤال ألقيته عليه: ‘كيف يقضي حسونة المصباحي سحابة يومه في زهرته البرية بمسقط رأسه؟’”.

وأردف الكاتب: “كنت من خلال سُؤالي المخاتل أحيل على العزلة والوحدة، صنو الكثير من الكُتَّاب العالميين الذين فضَّلُوا العزلة والكتابة، فكانت إجابة حسونة شافية، إنَّه لا يشعر بعزلة بين أهله، وسط أشجار الزيتون واللوز التي يحبّها، يتآنس مع نفسه وهو يقضي ساعات طويلة يمشي ويفكر وحيداً، يجُوب في مراتع الطفولة في ‘الذهيبات’، التي يظل سؤال القرية يتردد عليه: ‘لم نكن نتوقع أنك ستعود يوماً إلى البلدة!’ ولكنَّه عاد، ويقضي سحابة يومه في القراءة والكتابة والتَّواشج مع الطبيعة وهدوئها”.