تأثير ترشيد المياه وتأخر الصفقات على تراجع المساحات الخضراء في “مدينة الزهور”

تأثير ترشيد المياه وتأخر الصفقات على تراجع المساحات الخضراء في “مدينة الزهور”

عرفت مدينة المحمدية، خلال السنوات القليلة الماضية، تراجعا مقلقا في وضعية حدائقها ومساحاتها الخضراء التي باتت تعاني من مظاهر بارزة للتدهور؛ أبرزها ذبول النباتات وتلف الأرضيات، فضلا عن تراكم الحشائش اليابسة وبقايا الغطاء النباتي الميت، ما أفقد هذه الفضاءات وظائفها البيئية، وأثر بشكل سلبي على جمالية مدينة الزهور وصورتها العامة لدى السكان والزوار.

وخلال جولة بعدد من الأحياء السكنية، من بينها حي مومن وفضل الله والرشيدية والوحدة والسعادة، سُجلت مظاهر تدهور واضحة في عدد من الفضاءات التي يُفترض أن تكون خضراء، حيث بات اللون الأصفر يطغى على المشهد، بعدما غطى العشب الذابل مساحات واسعة، وامتدت رقع التربة العارية في زوايا متعددة، مع تفاوت في حدة التدهور من حديقة إلى أخرى.

وفي عدد من هذه الحدائق، لم يعد التدهور يقتصر على ذبول النباتات؛ بل أصبح مشهد الأزبال مشتركا، حيث تنتشر النفايات وبقايا الأكل بشكل عشوائي وسط المساحات العشبية والممرات. كما تساهم الحشائش اليابسة في إضعاف الجمالية البصرية للفضاءات، وتزيد من الإحساس بالإهمال؛ ما يُنفر الزوار ويقلص من فرص الاستفادة من هذه المتنفسات العمومية.

أما النافورات التي كانت تزين بعض الحدائق، فقد تعطلت بالكامل وتحولت قنواتها إلى نقاط تجمع للأزبال والمياه الراكدة. كما أن الكراسي الخشبية والإسمنتية التي كانت مخصصة لراحة المرتادين تخربت بفعل الإهمال أو سوء الاستعمال؛ مما جعل أغلبها غير صالح للجلوس، وحول هذه الفضاءات إلى أماكن شبه مهجورة تفتقر لأدنى شروط الراحة والتهيئة.

مطالب بالإصلاح

حسن حُمير، رئيس نادي الطلبة الخضر بالمحمدية، قال إن “مدينة الزهور كانت تُعد من المدن التي تميزت بتعدد فضاءاتها الخضراء، بحكم نشأتها في محيط طبيعي غني بالحدائق والمتنزهات؛ غير أن هذا الامتياز بدأ يتلاشى، خاصة بعد توالي سنوات الجفاف وتراجع جهود المصالح البلدية الموجهة للعناية بالبيئة، مما انعكس سلبا على هذه الفضاءات التي صارت في وضعية متدهورة”.

وأوضح حُمير، في تصريح لهسبريس، أن “التحولات المناخية وتوصيات الدولة بترشيد استعمال الماء دفعت بالجماعة إلى التخلي عن سقي الحدائق والعناية بها؛ ما أدى إلى تدهور كبير في المشهد البيئي داخل المدينة”، مشيرا إلى أن “هذا التراجع لم يمر دون انتباه، إذ عبر العديد من المتتبعين والمهتمين بالشأن المحلي عن قلقهم ودعوا إلى اتخاذ خطوات عاجلة لإنقاذ ما تبقى”.

وأشار رئيس نادي الطلبة الخضر إلى أن “النادي بادر بوضع عريضة لدى المجلس الجماعي بالمحمدية يدعو من خلالها إلى منح الفضاءات الخضراء عناية خاصة والبحث عن حلول بديلة لسقيها، ومن بين المقترحات التي تم تقديمها الاستفادة من المياه الناتجة عن أوراش البناء؛ وهي مياه غالبا ما تُهدر رغم قابليتها للاستعمال في الري”.

وأضاف الفاعل الجمعوي أن “النادي طالب بتوظيف هذه المياه غير المستعملة في سقي الحدائق والفضاءات العمومية، كخطوة عملية نحو إعادة إحياء هذه المساحات”، مؤكدا أن “هذا المقترح قابل للتنفيذ، ويمكن أن يساهم في الحفاظ على ما تبقى من الغطاء النباتي، خاصة في ظل التغيرات المناخية وندرة الموارد المائية”.

وختم حسن حُمير تصريحه بالتنبيه إلى أن “المحمدية تعاني أصلا من خصاص كبير في الفضاءات العمومية؛ ما يجعل من الحدائق المتوفرة المتنفس الوحيد لعدد من الأحياء”، مشددا على أنه “بسبب قلة الملاعب والمرافق الرياضية كانت هذه الحدائق مجالا للراحة والنشاط والتلاقي، وقد شكلت عنصرا أساسيا في الحياة اليومية للطلبة والسكان على حد سواء”.

المناخ والتدبير

سحيم محمد السحايمي، فاعل جمعوي مهتم بالشأن البيئي بمدينة المحمدية، صرح بأن “إشكالية المساحات الخضراء في المدينة تتفرع إلى عدة تعقيدات، أبرزها غياب مشروع لمعالجة المياه العادمة؛ وهو ما جعل السلطات تضطر إلى منع سقي المساحات الخضراء بالمياه الصالحة للشرب دون توفير بديل، خلافا لمدن أخرى كفاس ومراكش وطنجة التي اعتمدت هذا الحل مبكرا”.

وأشار السحايمي، في تصريح لهسبريس، إلى أنه “بفضل معالجة المياه العادمة، تمكنت هذه المدن من الحفاظ على مساحاتها الخضراء طوال السنة، سواء في الصيف أو الشتاء، حيث إن توفر مياه السقي ساعد على الاستمرارية في الصيانة والغرس؛ بينما تفتقر المحمدية اليوم لهذا البديل الحيوي، ما جعل المساحات الخضراء في تراجع مستمر وملحوظ، خاصة في ظل شح المياه وغياب حلول واقعية”.

وأبرز المتحدث ذاته أن “المجلس الجماعي للمحمدية لم يبادر إلى معالجة هذا الملف رغم أنه ليس وليد اليوم، بل هو نتيجة تراكمات وسوء تدبير تعاقبت عليه ولايات سابقة. ومع الأسف لم تُسجل أي خطوة ملموسة لإحداث محطة للمعالجة؛ ما جعل المدينة تفقد جزءا كبيرا من جاذبيتها البيئية وتدخل في دائرة من الإهمال المزمن لمساحاتها الخضراء”.

وأوضح الفاعل الجمعوي أن “الحديث عن صيانة أو إحداث مناطق خضراء جديدة يبقى غير واقعي دون توفير مصدر بديل ومستدام للسقي؛ وهو ما يجعل مشروع معالجة المياه العادمة أولوية قصوى في أي تصور بيئي للمستقبل، لأنه السبيل الوحيد لتحقيق استدامة حقيقية، إلى جانب إمكانية خلق احتياطي مائي نافع للمدينة في مواجهة التغيرات المناخية”.

وختم سحيم محمد السحايمي تصريحه بالإشارة إلى “خطوة إيجابية نسبية بدأت تلوح في الأفق، تتمثل في مشاريع تجميع مياه الأمطار من خلال إعادة تهيئة أهم شوارع المدينة، وهو ما يمكن أن يشكل حلا جزئيا لسقي بعض الفضاءات الخضراء مستقبلا؛ لكنه يظل غير كافٍ في غياب مركز لمعالجة المياه العادمة، الذي يمثل خيارا استراتيجيا بيئيا وتنمويا عاجلا”.

الطبيعية والبشر

إيمان غازي، نائبة رئيس المجلس الجماعي للمحمدية المفوض لها تدبير قطاع السير والجولان والمساحات الخضراء، قالت إن “شكاوى السكان من تدهور الحدائق مشروعة ومفهومة”؛ لكنها شددت على أنه “من الضروري أن يكون الرأي العام على علم بالإكراهات التي ترافق تدبير هذا القطاع، خاصة في ظل الظروف المناخية الصعبة؛ وعلى رأسها الجفاف الذي أثر بشكل مباشر على عمليات السقي والعناية بالنباتات”.

وأوضحت غازي، في تصريح لهسبريس، أن “قطاع المساحات الخضراء يُدبر، كما هو الحال في قطاعات أخرى، عبر التفويض لشركات خاصة”، مبرزة أن “هذا الأسلوب معتمد منذ سنوات في حدائق المحمدية؛ لكن الإجراءات الاحترازية لترشيد استعمال الماء الصالح للشرب، بسبب موجات الجفاف المتتالية، أثرت سلبا على جودة العناية بهذه الحدائق وغطائها النباتي”.

وأشارت المسؤولة الجماعية عينها إلى أن “شروط الصفقات المرتبطة بتدبير الحدائق تغيرت، خصوصا ما يخص منع استخدام الماء الصالح للشرب في السقي؛ مما أدى إلى فشل خمس صفقات كبرى كانت تستهدف صيانة حدائق المدينة الممتدة على مساحة تُقدر بـ40 هكتارا”، مذكرة بأن “المحمدية تُعد من بين ثلاث مدن مغربية رائدة من حيث عدد أشجار النخيل”.

وأضافت المتحدثة ذاتها أن “فشل الصفقات أجبر المصالح الجماعية على اللجوء إلى مواردها البشرية المحدودة”، موضحة أن “عدد عمال الجماعة المعنيين بهذه المهام لا يتعدى 12 عاملا فقط؛ وهو رقم غير كافٍ بالمرة لتغطية جميع المساحات الخضراء المنتشرة في أحياء المحمدية، ما يحد من قدرتنا على الاستجابة لتطلعات المواطنين والزوار”.

“مدينة الزهور”

قالت إيمان غازي: “بصفتي المسؤولة عن قطاع المساحات الخضراء، قدمت مجموعة من المشاريع الهادفة إلى تحسين جمالية الحدائق، وراسلنا المؤسسات المختصة عبر مصالح العمالة، كما عقدنا اجتماعات مكثفة لإيجاد حلول سريعة، مع الحرص على الاستفادة من تجارب مدن أخرى، دون إغفال خصوصية المحمدية من حيث مواردها الطبيعية والبشرية واللوجيستية”.

وكشفت نائبة رئيس المجلس الجماعي للمحمدية أنه “تم التوافق مع شركة جديدة لتنفيذ مشروع يستهدف إعادة تأهيل 27 هكتارا من الحدائق الكبرى، مع احترام شروط ترشيد استعمال الماء”، مشيرة إلى أن “عمال البلدية سيواصلون الاهتمام بالحدائق المتوسطة والصغيرة المنتشرة وسط الأحياء السكنية، التي تبلغ مساحتها حوالي 13 هكتارا، مع التفكير في حفر آبار صغيرة لتسهيل عملية السقي دون اللجوء إلى الماء الصالح للشرب”.

وأعلنت إيمان غازي أن “المجلس الجماعي بصدد الاشتغال على مشاريع موجهة للمساحات الخضراء”، مؤكدة أن “هذه الخطوة تأخذ بعين الاعتبار الأشغال الجارية بعدد من الشوارع الكبرى بالمدينة، وتندرج في إطار مقاربة شمولية تهدف إلى إعادة الاعتبار لجمالية مدينة الزهور وتوفير متنفسات خضراء تليق بالسكان والزوار على حد سواء”.