تجربة نابضة بالحياة: المأكولات اللبنانية تسحر الضيوف من أول قضمة

رغم أن صورة لبنان كوجهة سياحية غالبًا ما تُربط بشاطئه وجباله ومهرجاناته، إلا أن الزائر الذي يطأ هذا البلد للمرة الأولى سرعان ما يجد نفسه منجذبًا إلى بعد آخر أقل صخبًا، لكنه أكثر عمقًا: المطبخ اللبناني. هذا المطبخ الذي يُقدَّم عالميًا عبر أطباق مثل الحمص والتبولة والفتوش، يُخفي خلف بساطته الظاهرة شبكة من النكهات والتقنيات والعادات التي لا تلبث أن تُدهش الزائر، وتُعرّفه إلى خصوصية لبنانية متجذّرة تتجاوز الطبق نفسه.
دهشة أولى: اللحم النيء كمكوّن طبيعي على المائدة
لا يخفي السياح العرب أو الاجانب عبر مواقع التواصل الاجتماعي من خلال مشاركتهم يومياتهم في لبنان اندهاشهم من “اللحمة النية” التي تعتبر من المكونات الطبيعية والأساسية على المائدة اللبنانية، في حين يعتبرها الزوار الذين يأتون للمرة الاولى إلى لبنان أنّها خطيرة ولا مجال لتناولها.. في مطاعم بيروت أو بيوت الضيافة في الجبل، لا يخلو أي غداء تقليدي من طبق اللحمة النيئة، سواء على شكل كبة نية أو “لحمة مدقوقة” تُقدَّم بالزيت والنعناع. بالنسبة للسائح، فإن تقديم اللحمة النيئة كطبق رئيسي يبدو تصرّفًا جريئًا، إن لم يكن صادِمًا. في معظم الثقافات السياحية التقليدية، يُحاط اللحم النيء بتحذيرات صحية صارمة، وغالبًا ما يُقدّم في المطاعم الفاخرة ضمن وصفات مدروسة بدقّة. أما في لبنان، فالأمر مختلف تمامًا: النيء ليس رفاهية نخبوية، بل علامة ثقة وعلاقة مباشرة بالمصدر.
الدهشة هنا لا تأتي من جرأة الطبق فقط، بل من الثقة العميقة التي يضعها اللبناني في سلسلة التحضير: من نوعية اللحم، إلى وقت الذبح، إلى طريقة الدقّ، إلى التقديم في بيئة عائلية ضيقة.
بالتوازي، يتفاجأ كثير من السيّاح، وهذا ما يظهر عبر مقاطع الفيديو المنشورة، من أن المائدة اللبنانية ليست فقط غنية بالأطباق، بل غنية بالبُعد الاجتماعي أيضًا. الأكل هنا ليس نشاطًا فرديًا، بل مناسبة جماعية يُقاس فيها الكرم بعدد الصحون وتنوّع المكونات. “الضيافة” ليست تفصيلًا جانبيًا في تجربة الزائر، بل محورٌ يفرض نفسه: يُدعَى السائح أحيانًا لتناول الطعام في بيوت مفتوحة دون موعد، يُطلب منه تذوّق كل طبق، ويُحاط بلغة جسد حنونة تعكس شغفًا حقيقيًا بمشاركته النكهة.
بين التقليد والانفتاح: المطبخ اللبناني كجسر ثقافي
بعكس الصورة النمطية التي تقدّم المطبخ اللبناني كمنظومة “مزّة” خفيفة، فإن الواقع يكشف عن طيف واسع من الأطباق الغنية بالبروتينات، الزيوت البلدية، والمواد الطازجة، والممتدة من الساحل إلى أعالي الجبال.
والمفارقة أن هذا المطبخ، برغم عمقه المحلي، يُظهر قدرة كبيرة على التفاعل مع الذائقة العالمية. فالسائح يجد في الطعم ما هو مألوف من حيث البهارات المتوسطية، لكنّه يُفاجأ بالجرأة في تقديم بعض الأطباق، وخصوصًا النيئة منها، كجزء أساسي من التجربة لا هامش لها.
ما يشهده لبنان اليوم من عودة تدريجية للسياحة يطرح سؤالًا جوهريًا: هل يمكن أن يُعاد تعريف هوية البلد خارجيًا من خلال مطبخه؟
المؤشرات تُشير إلى ذلك. كثير من الزوار الذين يترددون بداية أمام طبق الكبة النية، أو ورق العنب، أو أي طعام لبناني بحت، ينتهون بإبداء إعجاب كبير بـ”النكهة الحقيقية”، ويبدون استعدادًا للمغامرة أكثر مما هو متوقّع.
المطلوب اليوم هو الاستثمار المنهجي في هذا الجانب: دورات طهي، جولات تذوّق، مطاعم تُعيد إحياء وصفات قديمة، وتجارب تتيح للسائح أن يعيش “النكهة” لا أن يكتفي بتذوّقها.
المطبخ اللبناني ليس فقط واجهة لعرض التنوع الجغرافي والزراعي في البلاد، بل هو مرآة لهوية اجتماعية وثقافية لا تزال حيّة رغم كل التحوّلات.
ولعلّ قدرة هذا المطبخ على إحداث “دهشة طهوية” حقيقية لدى الزائر هي نقطة قوّة لا تزال غير مستثمرة بما يكفي، في وقتٍ تبحث فيه السياحة العالمية عن “الاستثنائي” وسط التكرار.
لبنان، بطعامه النيء والطازج، وكرمه الشعبي، لا يقدّم طبقًا فقط… بل يقدّم سردية وطنية في كل لقمة.