انطباعات شخصية…الأمور ليست على ما يرام

لم تكن زياتي للبنان هذه المرّة زيارة سياحية كما يفعل جميع اللبنانيين المغتربين. هي جزء من ضمن عملي الإعلامي المهني. فعلى رغم أنني أعيش يومياتي الاغترابية في مونتريال فأنا ما زلت أعيش في وطني الساكن في كل مسامي. أتابع دقائق الحياة السياسية وتفاصيلها لحظة بلحظة، ولكن هذه المتابعة تبقى ناقصة، لأن الناظر إلى الأمور من بعيد لديه انشغالات أخرى تختلف عن ذاك الذي يعيش في خضمّ الأحداث اللبنانية اليومية. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي لا تترك شاردة أو واردة حتى تنقلها بأدّق تفاصيلها إلى العالم كله. لكن هذا النقل يبقى غير كافٍ ما لم يصحبه عيش الحدث.
ولكي لا تبقى الأمور مبهمة أورد ما شعرت به عندما أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية من بيروت ليلة عيد الأضحى المبارك. وهذا الشعور لم يخالجني وأنا بعيد عن الحدث آلاف الأميال. عندما سمعت أزيز القذائف التي استهدفت المباني، التي سبق لإسرائيل أن أنذرت بقصفها، حاولت أن أضع نفسي، ولو معنويًا، مكان سكّان هذه المباني المحدَّدة كأهداف إسرائيلية. كيف اضطّروا إلى ترك منازلهم واللجوء إلى أقرب مكان للاحتماء، وهم يعرفون أن ما تركوه لن يعودوا إليه مرّة ثانية بعد أن يصبح كومة من الحجارة والحديد والأثاث المهشّم، مع ما في هذه المنازل من ذكريات الطفولة ورائحة الأباء والأجداد.
عندما أتيت قبل شهر واسبوعين تقريبًا تكّون لدي انطباع أولي بأن البلاد سائرة، ولو بخطى وئيدة، نحو التحسّن التدريجي بعد انتخاب رئيس للجمهورية، وبعد تشكيل حكومة فيها من التناقضات السياسية ما أفسح في المجال أمام المحللين ليبنوا على هذه التناقضات السياسية ما يمكن التفاؤل به، خصوصًا أن خطاب القسم رسم خارطة طريق تفاؤلية اعتقد كثيرون أنه إذا استطاع الرئيس جوزاف عون، مع كل ما لاقاه من دعم خارجي وتأييد داخلي، تحقيق عشرة في المئة مما تعهد به في هذا الخطاب لأمكنه أن يحقّق نقلة نوعية في مسيرة النهوض. ويضاف إلى هذا الخطاب ما جاء في البيان الوزاري من خطوط عريضة لخطة التعافي ونقل لبنان من ضّفة الانهيار إلى ضفة أخرى يمكن أن تكون بمثابة الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل الإصلاحية. لكن شيئًا من هذا لم يحصل حتى الآن، وقد انقضى ما يقارب الثلاثين في المئة من عمر حكومة “الإصلاح والإنقاذ”. وهذا الأمر أعادني إلى الواقع المعيوش غير المتطابقة مواصفاته مع ما تكّون لدي من انطباعات أولية ما لبثت أن تبخرت كفقاقيع صابون.
فالحركة السياسية تدور حول نفسها من دون تحقيق أي خرق يُذكر في جدار يقف حائلًا دون الوصول إلى الغايات المرجوة، خصوصًا أن انكفاء الولايات المتحدة الأميركية عن التدخل مباشرة أو عبر لجنة الرقابة الدولية المشرفة على تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار لدى إسرائيل لمنعها من توسيع غاراتها، كما حصل أخيراً في الضاحية الجنوبية لبيروت، بدأ يُقلق المسؤولين، الذين أملوا في أن تقف واشنطن إلى جانب لبنان في مطالبته بإلزام إسرائيل بتطبيق اتفاق وقف النار تمهيدًا لتطبيق فعلي للقرار 1701.
وعلى رغم ما تبّلغته المراجع الأميركية المعنية من معلومات تنفي استخدام “حزب الله” المباني، التي استهدفتها إسرائيل في الضاحية الجنوبية لتصنيع المسيَّرات، فإن مجرد توجيه واشنطن لتل أبيب اللوم لا يعيد إلى سكّان هذه المباني ما هدّمته الطائرات الحربية من تعب السنين وشقاء العمر في لحظات من الجنون.
إلا أن هذا اللوم الأميركي لإسرائيل لن يعفي واشنطن من مسؤوليتها الأدبية عن ممارسة أقصى الضغوط على حكومة نتنياهو لكي توقف اعتداءاتها في ضوء المخاوف من توسيعها بغياب الضوابط الرادعة لها التي تتلازم مع عدم تحرك لجنة الرقابة في مواكبتها للخروق لثني إسرائيل عن المضي فيها، خصوصاً بعدما اتخذ “حزب الله” قراره بالوقوف وراء الدولة اللبنانية في خيارها الديبلوماسي لإلزام إسرائيل بالانسحاب، ويمتنع عن الرد على خروقها لوقف إطلاق النا لألف سبب وسبب، ومن بينها على حدّ ما يقوله خصومه السياسيين عدم قدرته على الردّ لعلمه المسبق أن أي ردّ من قبله يعني عودة الحرب المفتوحة، التي يردّد أنه لا يخشاها ولكنه لا يسعى إليها.
فلبنان الرسمي يتمسك ببقاء لجنة الرقابة المشرفة على تطبيق وقف إطلاق النار، على رغم ما جاء في بيان قيادة الجيش، التي لوحّت بالامتناع عن مواكبتها للجنة بالكشف على المواقع لتفكيكها في حال تأكد أنها تستخدم من قِبَل الحزب لتخزين السلاح كجزء من بنيته العسكرية. فهذا البيان، وفق مصادر رسمية، يأتي في سياق حث قيادة الجيش على التدخل لدى إسرائيل لوقف خروقها ومنعها من توسيعها، في ظل المخاوف المشروعة من أنها تصب في خانة تسميم الأجواء وتعكيرها مع حلول فصل الصيف، الذي يتطلع إليه اللبنانيون لإعادة تحريك العجلة الاقتصادية وانتشال لبنان من حال الركود التي يتخبط فيها.